الخبز والفاشية في «المصابيح الزرق»

الخبز والفاشية في «المصابيح الزرق»

في مدينة اللاذقية على الساحل السوري، وفي واحد من أحيائها الشعبية، تدور أحداث رواية «المصابيح الزرق» لحنا مينه زمن الحرب العالمية الثانية عندما كانت الإنسانية تناضل ضد الفاشية. 

الحرب والفاشية

يقول مثل شعبي كردي قديم: من لم يذهب إلى الحرب يقول عن نفسه: أنا أسد «yê ku ne çûye şeran dibêje: ez şêrim». أما من عاش الحرب سابقاً، فستنقطع أنفاسه عند سماعه خبر اندلاع حرب جديدة، وهذا حال أبو فارس من أبرز شخصيات رواية «المصابيح الزرق».
وما إن وصلت الأخبار الأولى لاندلاع الحرب العالمية الثانية إلى سمع أبو فارس، حتى أصيب بحزن شديد، فهو من عاش أهوال الحرب العالمية الأولى وسيق إلى الجندية بالقوة «السفر برلك»، وهرب منها مختبئاً في الجبال حتى أبيض شعره وهو في عمر الشباب.
تذكر أبو فارس حمام الدم الذي حصد أرواح السوريين في ذلك الوقت، ولم تكن الحرب المأساة الوحيدة التي أصابت البلاد، بل خيمت المجاعة ومات الناس جوعاً، وحصدت الأوبئة مثل «الهوا الأصفر» أعداداً كبيرة من السكان.

بطاقة غير ذكية للخبز

ما أن بدأت الحرب، حتى بدأ المسؤولون يعزفون مقطوعة يعرفها السوريون حتى اليوم.
وكان المختار والبلدية والشرطة هو الوجه المباشر للحكم الفاشي السافر الذي حل على سورية على يد الجنرال دانتز، وهو من أنصار حكومة فيشي الفرنسية الموالية لهتلر. وعند اندلاع الحرب، تقلصت كميات الخبز والطحين، فاحتج الناس مطالبين بخبزهم، ولكن المختار وموظفي البلدية قالوا للناس: تعرفون الظروف الحالية، الوضع صعب، يجب أن تصبروا، فالدولة لها مشاغل أكبر منكم ومن الخبز.
وانتشرت ظاهرة توزيع الخبز ببطاقات ليست ذكية، وإنما بطاقات بدائية طبعتها البلدية، ولم يحصل كل الناس على خبزهم الكافي، وانتشر التلاعب بكميات الخبز والطحين بين المختار وموظفي البلدية الكبار إضافة إلى تزوير بطاقات توزيع الخبز، هكذا عاش السوريون في ظل حكومة فيشي الموالية للفاشية.

المصابيح الزرق

«المصابيح الزرق» هي الرواية الأولى التي كتبها حنا منيه، وتطلّبت كتابتها ما يقارب ثلاث سنوات، حيث كان يلغي ويعيد كتابة فصول بأكملها. وتدور أحداثها منذ بدء الحرب العالمية الثانية وحتى انتهائها، وتشكل أزمة الحرب محور الرواية. أما الأحداث فتتمحور حول حياة كاملة لمجموعة من سكان أحد الأحياء الشعبية في مدينة اللاذقية.
يقول حنا منيه: لم أكن أتصور حتى في الأربعين من عمري أنني سأصبح كاتباً معروفاً، فقد ولدت بالخطأ ونشأت بالخطأ وكتبت بالخطأ أيضاً»، وهكذا بدأت أعماله من رواية «المصابيح الزرق». ورغم أنه بدأ يكتب القصص منذ عام 1942 تتناول صوراً من نضال الشعب السوري ضد الاستعمار الفرنسي والفاشية والإقطاع، إلا أنها ضاعت جميعاً، فبدأ يكتب الروايات استناداً إلى أحداث محفورة في الذاكرة عن تلك الفترة.
ومثل الروايات الكلاسيكية، فإن البطولة لا تنحصر في شخص بالطريقة الفردانية، بل بشريحة من المجتمع تجمع نماذج عديدة ومختلفة سواء في آلية التفكير أو الهدف في تعاملها مع الأزمات أو المنبت الطبقي. وعلى الرغم من أن الرواية تبدأ وتنتهي بفارس، إلا أنه ليس بطلها بل فتاها الأول، فهناك في الدار الكبيرة تعيش مجموعة من العائلات الفقيرة. من أم صقر المرأة العجوز التي تخدم في البيوت وابنها الشاب العاطل عن العمل، ومريم السودا وزوجها نايف الملقب بالفحل وغيرهم.
يستعرض حنا مينه كيف يعيشون ويتعاملون مع بعضهم، وكيف يفكرون ويتفاعلون مع الأحداث، ويناقش فكرة النضال ضد المستعمر والبحث عن لقمة العيش، إلى جانب نماذج من الشخصيات الانتهازية وتجار الأزمات التي تسعى لتحقيق المكاسب على كافة الأصعدة، والمتمثلة في مختار الحي جريس الذي لا يوفر فرصة لمحاباة السلطات وتحقيق الفائدة المادية على حساب الفقراء وحرمانهم من بطاقات التموين الخاصة بهم.
ومن خلال صراع البقاء والنضال تتبلور الشخصيات، ومنها: الفتى فارس الذي بدخوله السجن بسبب ضربه للفران حسن حلاوة، ينتقل إلى مرحلة الرجولة. وفيه يتكشف أمامه عالم جديد يضم السياسيين والمثقفين وغيرهم، ويفاجأ بعد إطلاق سراحه بتدهور الحياة في الخارج، ويعيش صراعاً بين مثله في النضال الثوري وبين البحث عن عمل ولقمة العيش، ويتوج هذا الصراع عندما يقع في حب ابنة الجيران رندا.
وخلال رحلة بحثه يتعرف القارئ على الصفتلي وهو صياد يشقى في كسب رزقه ويشارك الآخرين همومهم الناشئة من الحرب والاحتلال، ومحمد الحلبي القصاب والمناضل بصورة سرية وبشارة القندلفت المخمور على الدوام على الرغم من أنه يعمل كخادم في إحدى الكنائس. ويدفع تردي الوضع الاقتصادي بفارس إلى التطوع للحرب ضد الألمان مع صديقه نجوم.
وبسفره يعود الروائي إلى والد فارس الذي يرى حياته تتكرر أمامه مرة أخرى، ولكن بنهاية مختلفة، حيث يقتل فارس بقذيفة وتموت رندا بمرض السل، ليبقى الأمل في المظاهرات والاحتجاجات والثورة على الاستعمار الفرنسي بعد انتهاء الحرب حتى تحقيق الجلاء.

معلومات إضافية

العدد رقم:
964
آخر تعديل على الإثنين, 11 أيار 2020 15:11