«شلّع.. قلّع..» والتعبير عن مطلب التغيير

«شلّع.. قلّع..» والتعبير عن مطلب التغيير

قد يعتقد البعض أن الشعارات في أي احتجاج أو انتفاضة شعبية ليست سوى هتافات غضب وتنديد ترددها الجماهير الشعبية الناقمة، لتنفّس من خلالها عمّا يعتمل صدرها من سخط ونقمة وعدم رضا عن وضعها المتردي سواء سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً او ثقافياً.. إلخ. وهذا صحيح جزئياً، فالشعارات غالباً ما تترجم حالة استياء ورفض للواقع المعاش، يُعبر من خلالها عن مشاعر متنوعة كالغضب والحماسة والحزن والسخرية... ولكن الشعارات وخاصة السياسية منها لها بُعد أعمق، فالشعار السياسي هو أحد الآليات التي يتكثف بها الخطاب المعبر عن مضمون هوية محددة.

سلطة الكلام

تلعب اللغة دوراً هاماً في السياسة، فباللغة يمكن التعبير عن الأفكار، والفكرة تصبح قوة مادية عندما يعتنقها الكثير من الناس. وهكذا تكون اللغة في إطار السياسة ممارسة اتصالية هادفة، تسعى من خلال استخدام الكلمات إلى الوصول إلى الفئات والطبقات الاجتماعية. وكما أن للغة دوراً مركزياً في الخطاب السياسي، فإن للشعار دوراً مركزياً في الخطاب.

«#نازل آخذ حقي»

نقلت شاشات التلفزة والتواصل اندلاع الحراك الشعبي الغاضب في العراق وانتشاره بسرعة في أغلب المحافظات. وملأت الجماهير الشعبية العراقية الساحات والميادين المختلفة في طول البلاد، وعرضها، رافعة منذ البداية شعاراتها الخاصة. والتي كان أولها: هاشتاغ «نازل آخذ حقي»، و«الشعب يريد إسقاط الفساد»، ثم «أريد وطن»... ليست هذه مجرد كلمات رددها أناس غاضبون وشعب جرى إذلاله بكل الطرق، ولكنها التعبير الأعمق عن حاجة العراق وجماهيره المنتفضة للتغيير.
جاء الحراك الشعبي في العراق ضمن الموجة الثانية للحراكات الشعبية، لتكون أكثر نضجاً وأعمق فهماً لحاجة التغيير، في بلدٍ أُهينت كرامة مواطنيه، بلد اُحتل (خارجياً) من الأمريكي، وجرى إذلال شعبه (داخلياً) بلقمة العيش، وتخادم «الخارجي» مع «الداخلي» من خلال منظومة التحاصص الطائفي الأكثر سوءاً. جاء الحراك مطالباً بحقه: بالكرامة الوطنية، بالحريات السياسية، بلقمة عيش كريمة .. إلخ، لخصت مطالبه هذه جملة واحدة: #نازل آخذ حقي. أراد العراقيون أن يقولوا للعالم أجمع أن لهم حقوقاً يعرفونها ويريدونها وسيأخذونها.
أما شعار «الشعب يريد إسقاط الفساد»، فقد كان تعبيراً عن فهم الحراك العميق بأن أي تغيير حقيقي يتطلب تفكيكاً كاملاً لمنظومة العلاقات السياسية والفكرية والاجتماعية.. وهو ما لخصه بهذا الشعار المميز «إسقاط الفساد». الفساد المرتبط بنيوياً بالمنظومة السياسية القائمة. فساد فاق الخيال، ونهب غير مسبوق في بلد غني بالثروات.

«الوطن هو ألا يحدث ذلك كله»

تبارى المحللون السياسيون والإعلاميون في تفسير بعض الشعارات التي رفعها ورددها العراقيون، ومنها «أريد وطن»، لقد احتاجت هاتان الكلمتان إلى شرح!
لا يكفي الركون إلى «الدلالة الثقافية» للمفهوم، أو حصره بفكرة عدم تقسيم البلاد على أهميتها، لقد جاء الحراك لاسترجاع وطنه كاملاً غير منقوص، من خلال التركيز على فكرة الانتماء إلى «وطن»، وتحديد مفهومه وهويته المغيبة. لهذا رفع الحراك مطالبه على المستوى السياسي، وبكل جرأة وتصميم، وبعيداً عما تطرحه البنية السياسية القائمة، بتحطيم «البنية الطائفية» عبر تحطيم منظومة التحاصص الطائفي. مطلبٌ شجاعٌ وجريء، يمكن أن يؤسس للخروج من ذل الارتهان للخارج، حيث تصبح المرجعية الحضارية هي التعبير عن «العمق الوطني» كما يؤكد المفكر هادي العلوي.
وتأتي الشعارات الأخرى لتستكمل لوحة الوطن، معبرة بجمل قصيرة، ولهجة عراقية عامية بسيطة ولكنها عميقة: «شلّع، قلع، كلهم حرامية». كلمة شلّع ليست سوى تعبير عفوي عن جذرية التغيير المطلوب، إذ لا يمكن لأي إصلاح أن يُخرج العراق من دوامة الأزمات التي يرزح تحتها اليوم.
عبرت الشعارات عن اندماج الجماهير ذات الهم الواحد، وتمكنت ليس فقط من كسر حاجز الخوف عندهم، بل كسر الكثير من القيود التي كانوا يعيشونها قبل نزولهم إلى الشارع. ورغم محاولة بعض القوى السياسية القائمة ركوب موجة الحراك والتحكم به، لكنها لحد الآن فشلت فشلاً ذريعاً. إن هذه القوى لن تكون حاملاً للجديد الذي ينشأ، لأنها ببساطة تنتمي إلى القديم، وهي لم تخرج عن برامجها السياسية السابقة، بينما يتطلب التغيير برامج ومواقف وطنية عميقة وجذرية تضع مصلحة العراق والعراقيين فوق كل شيء. عبّر الحراك عن رفضه لهذه القوى بأبسط الكلمات: «ما نتراجع، لا هيهات.. خل تسمعنا الحزبية» و«من كل شارع، من كل باب.. نطلع ما نرضى بأحزاب»..

ثقافة الاحتجاج الشعبي

استلهمت الشعارات في الحراكين اللبناني والعراقي من مصادر متعددة تستعيد التراث وتستعير من الحراكات المجاورة، واستخدمت أساليب مختلفة ومتنوعة من أساليب التعبير فاستخدمت الصورة والكاريكاتير وبعض الأغاني والنكتة السياسية إلى جانب النص المكتوب. ووظفت التكنولوجيا إلى حد ما في ابتكار وطرح الشعارات ونشرها، في التعامل مع الحدث، الذي ما زالت تحميه سلميته. إن بقاء الحراك بدون حوامل وبرامج سياسية، يمكن أن يؤدي به إلى الذهاب إلى العنف و«الدَّم»، لذلك من الأفضل أن يؤطِّر قواه، ويسرع بعملية الفرز ليصل إلى المطلوب. إضافة إلى حماية نفسه، قبل أن يتمكن أعداؤه من خطفه وإغراقه بالدم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
944
آخر تعديل على الأربعاء, 18 كانون1/ديسمبر 2019 13:28