الفن في العصر الراهن.. الظروف والخصائص والتحديات
تطوَّرت المجتمعات في العصور السابقة على الرأسمالية بفعل التناقضات الأساسية الناجمة عن طبيعة إنتاجها، وتطورت مُثلها الجمالية محاذيةً لمجرى التطور العام فيها. كانت المجتمعات في تطويرها لمثلها الجمالية تسعى إلى إظهار ما هو (إنساني في الإنسان) بشكلٍ منسجم مع القوانين الموضوعية الجاري البحث فيها واكتشافها في كل عصر محدد بفترة تاريخية ما.
أما في المجتمعات الرأسمالية، فإن الطبقات السائدة تفتقد إلى مُثل جمالية يمكن تعميمها، كما أن بنيتها الأخلاقية المتوافقة مع تطلعاتها الأنانية كطبقة مستغِلة والقائمة على طبيعة إنتاجها الساعي أبداً إلى أقصى درجات الربح، تقوم على كبح النمو الجمالي الإنساني، وبالتالي تكبيل الفن.
ويمثِّل الفن المطلوب اليوم إحدى الأدوات الأساسية في بلورة وعي اجتماعي يناقض وعي الطبقات السائدة المتشكل عبر قرون وعقود طويلة من الاستغلال الاجتماعي والاحتكار لجميع وسائل تشكيل الوعي الاجتماعي، ويحاول المقال اليوم إلقاء بعض الضوء على ظروف الفن الصعبة وخصائصه في العصر الراهن:
ـ1ـ
تفتقد الطبقات السائدة في المجتمعات الرأسمالية القدرةَ على الاغتناء الفني لافتقادها المثل الجمالي الذي كان التملك الجمالي للعالم محركاً للبحث فيه خلال العصور السابقة التي أكدت جميعها على كون الإنسان سيد العالم.
فالمَثل الوحيد أو القيمة الوحيدة في المجتمع الرأسمالي هو النقد كونه المعادل العام المساوي لجميع الأشياء في العالم، بما فيها القيم الإنسانية ذاتها مشوهاً إياها ومختزلها بالأنانية والجشع والفردانية والعبودية له ولمالكه. وقد يكون المثل الجمالي الوحيد هو النقد ذاته!
وفي هذا المجتمع الرأسمالي الذي بلغ فيه تقسيم العمل حداً عالياً، تكون فئة الفنانين أو ما يصطلح على تسميته (المثقفون) فئةً بذاتها إلى جانب الفئات الأخرى في المجتمع. وهي لا تمتلك سوى إبداعها الفني قوةً للعمل قابلة للبيع والعيش منه. وعلى ذلك، فالنقد- رأس المال يحكم إبداع الفنان، ومالك النقد الرأسمالي الزبون يحدد موضوع الفن، في تناقضٍ مع كون الفن والفنان ميالاً للإبداع الفردي المشغول بحجم التناقضات في المجتمع، وللتعبير عن جوهر النظام الطبقي، وهو ما سبَّب للفن والفنان مأساته اليوم.
وهكذا، فإن تلك الطبقة السائدة، تُخضع الفن إلى سيطرتها، وتنفخ فيه مفاهيمها. وعلى هذا فهي تطرح الفن خالياً من المثل الجمالية، فناً مجرداً وحسب، فارغاً من أي محتوى سامٍ في الحياة، ومنحدراً حد الانحطاط إلى الحس المجرد أو اللذة الحسية والتسلية.. يساعدها في ذلك، تحكمها بجميع وسائل وأدوات التعبير عن الفن، في السينما والتلفاز وعبر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت.. التي تشيع نمطاً واحداً من الفن يقتات على فتات مائدة الحياة دون النفاذ إلى جوهرها- جوهر الفن، ومشيعاً مختلف ألوان التسلية وعوارض الفساد الفني وتشتيت الوعي الاجتماعي في التفاصيل السطحية والمغامرات والفانتازيا والجنس وقصص الحب شديدة الذاتية والجريمة والأكشن..
ـ2ـ
يعتمد الفن في الرأسمالية في أحد جوانبه على ما يُطلق عليه (الطبيعية)، والموجهَّة أساساً إلى الطبقات والفئات المستَغلة على (التقليد)، والعناية بأدق تفاصيل الموضوع الفني. وصياغة الحكايات المليئة بالحوارات اليومية المشتتة فارغة المضمون. وهذا الإغراق في التفاصيل يصيب كثيراً المتلقي غير الواعي جمالياً وغير الجاهل كذلك، يصيبه بالدهشة (الفيزيائية) التي تنفذ إلى الوعي. وفِعلها بالتالي هو فعل (إلهاء). وهذا الفن يقوم بحجب المجتمع عن التفكير الجدي بقضاياه وبتناقضاته وبسبل حلها، وبالمشاعر الإنسانية الحقيقية المتصارعة في النفس البشرية نتيجة ذلك.. يمكن ملاحظة ذلك في أفلام ذات تقنيات بصرية وفنية باهرة والتي تحول ملاحم البطولة وأساطيرها، إلى حكايا خالية حتى من مضمونها في عصرها السابق (طروادة مثلاً).
وأثناء تشويه الذوق الجمالي الآنف الذكر، يكون فن النخبة محجوباً عن الحياة الاجتماعية؛ إذ لم يغب التصوير أو التشكيل عن الفن في الرأسمالية، لكنه ظل انعكاساً سلبياً عالي التقنية فارغ المحتوى ودون عاطفة للموضوع الفني، وبعيداً عن الهم الاجتماعي، وهو بالتالي، شكلي بحت. وقد مهد ذلك الطريقَ لبروز أشكال العدمية الفنية التي تقوم بعزل الشكل المجرد عن تعبيره في الواقع. وعليه، لا موقف للفنان في أعماله تلك من الهم الاجتماعي رغم أنه يغرق المجتمع في تيه البحث عن معنى لتجريده! وما تفيض به المعارض اليوم بتلك الأعمال.
ـ 3ـ
خرجت الحركات الفوضوية التي انتمى إليها مثقفون وفنانون لم يستطيعوا الهضم والتأقلم مع مفاهيم المجتمع الرأسمالي الخالية من أية قيم أخلاقية ومثل جمالية. وقاموا بردات فعل جدية رافضة لدرجات الانحطاط الرأسمالي، وحاولوا بأعمالهم تأسيس تيارات فنية جدية في بحثها (سيزان مثلاً). لكن تلك الحركات في تطورها لم تقدم حلولاً جذرية تتعلق بانحياز الفن ودوره في حل المسألة الطبقية؛ إذ اتخذت الانعزالية شكلاً لاحتجاجها على معاناتها من الاغتراب، لكنها عجزت عن الربط بين معاناتها الفردية والمعاناة الاجتماعية الناجمة عن التناقضات الاجتماعية التي يولدها ذات النظام الرأسمالي. انعزل الفنانون والمثقفون الفوضويون في قوقعتهم في محاولة للارتقاء بأنفسهم عن الانحطاط، لكن لا يمكن للفن أن يحيا في أبراج مشيّدة بسبب طبيعته الاجتماعية، وارتباطه العضوي بالحياة والنضال السياسي. وإلا فهو يقوم بنفي نفسه.
المفارقة، أن الموقف الاحتجاجي للفوضويين هذا، قوبل أخيراً بالرعاية لأعمالهم من قبل الطبقات السائدة التي لا تجد في تلك الفوضوية تهديداً لنظامها القائم وسيادتها عليه. وبات اليوم الفن الفوضوي (اللاشكلية التي برز بعد الحرب العالمية الثانية أحد أشكاله الأهم) تحظى بالرعاية كأحد أعلى وأرقى ما بلغه الفن الحديث، (احتفى متحف الفن الحديث في باريس عام 2018 بجان فوترييه وهو أحد أبرز اللاشكليين)، ويفيض الفن اليوم كذلك باللاشكلية والمعبرة فعلاً عن تفسخ النظام الرأسمالي.
ـ4ـ
لم تعرف دول الأطراف تطوراً في الفن كما في دول المركز وروسيا. إذ إن انفتاح الأفق الثوري في تاريخها الحديث لم يدم طويلاً نتيجة عوامل عديدة تتعلق بـ:
أولاً: فترات التراجع الثوري دولياً، وانهيار المنظومة الشرقية أواخر القرن المنصرم، حيث بدا مع سيادة نظرية (نهاية التاريخ) أن جميع أشكال الواقعية الفنية طوباوية.
ثانياً: لم يجر تطور طبيعي للرأسماليات المحلية بحيث تلعب دوراً تقدمياً ناضجاً ينعكس عميقاً على الفن، وعدم نضوج الطبقة العاملة كذلك الأمر.
ثالثاً: بسبب التحالف الوقح والمفضوح بين البرجوازيات الطفيلية والبيروقراطية مع النفوذ الإقطاعي في مراكمتها لرأس المال الأولي، وتبعية تلك التوليفة لدول المركز. ولدى استتباب الأمر لهذه التوليفة، دخل الفنُّ الأطرَ الرسمية، وتم إحكام الطوق حوله في جميع الوزارات والمراكز والجمعيات الثقافية والنقابات ودور النشر والإعلام مسموعاً ومرئياً وعبر الإنترنت والمواقع الإلكترونية.. تسبب كل ذلك بانتكاسة وانحطاط في مجمل مناحي الحياة الفنية في المنطقة، وهو ما أدى إلى تهديد الهوية الثقافية للشعوب، وإلى عدم القدرة على ممانعة ولوج أشكال وألوان من الفن التي لا جذور شعبية لها في وعي الأجيال الشابة، بشكل يسهل إعادة تشكيل وعي اجتماعي يناسب وصفات الليبرالية الاستهلاكية، والسيطرة السهلة على مصير الشعوب.
ـ5 ـ
يَفترض الفن أنه في حالة صدام دائم مع اللامحتوى الثقافي الذي تقوم الطبقات السائدة بتسييده وتشكيله للوعي الاجتماعي. ولا يمكن للفن ذي المحتوى التقدمي أن يكون سوى ذلك. كما يفترض أنه يحظى بالدعم (الصامت- غوركي) من ممثلهم الشعب، فهو المعبّر عن آلامهم وآمالهم وقضاياهم المصيرية. ولم تكن الواقعية الفنية يوماً سوى الصاعق الذي أشعل الفن بالزخم الجمالي المطلوب لشحن الاندفاع العاطفي والواعي للشعوب الساعية للتغيير الجذري لظروف حياتها غير المنصفة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 944