في تناقضات الحركة الشعبية وجدلية الماضي والمستقبل
التغيير هو صراع بين الماضي والمستقبل. بين بنية وصلت إلى حدودها التاريخية وأصبحت معيقة ومدمرة للمجتمع، وبين بنية نقيضة تستبدلها عبر حلّ تناقضات البنية القديمة، وشق طريق المستقبل لقنوات عدم الرضا الشعبي وحاجاته المادية أو المعنوية، لحماية المجتمع من الدمار والتفكك، وإنشاء مجتمع العدالة العميقة والسعادة الحقيقية لبشر يلعبون أدوارهم الاجتماعية لصالح تقدم المجتمع. هذه الأدوار التي تنتج قيمتهم الفردية، وإنشاء البنية السياسية الجديدة للإدارة الجماعية والشعبية للمجتمع العادل والقادر والسعيد، عبر التوزيع العادل للثروة والإدارة.
وبين الماضي والمستقبل يُجثم وزن الإرث الطويل الثقافي والنفسي والمعرفي كعناصر من البنية الفوقية للمجتمع القديم، تشد في الخلف، وترخي بثقلها. ولا بد للجديد أن يحل هذا التناقض بعناصر معرفية ونفسية جديدة لتعطيل أدوات الكبح والعناصر الرجعية المُعطِّلة.
تناقض بين اتجاهين في ذات الوقت
التناقض بين الماضي والمستقبل لا يُعبّر عن نفسه بشكل اتجاهين اجتماعيين منفصلين وقوى منفصلة صريحة بشكل مطلق. صحيح أن القوى الشعبية المقهورة بالمعنى الاقتصادي والسياسي المباشر تمثل الحامل المادي للمشروع التقدمي، وبأن قوى رأس المال المستَغِل والفساد والنهب تمثل الاتجاه الرجعي اجتماعياً، ولكن القوى التي تمثل التقدم موضوعياً (كقوة بذاتها) عليها أن تعكسه ذاتياً (كقوة لذاتها)، لكي تحقق الكامن فيها كقوة بناء للمستقبل. وهذا ليس جديداً، فلطالما عبّرت الأدبيات الماركسية- اللينينية عن دور الوعي والمشروع السياسي والبرنامجي في تحويل التمرد والرفض والمطالب إلى قوة سياسية تغييرية. في التجارب الثورية للقرن الماضي كان لوزن الجانب الاقتصادي والسياسي المباشر الحضور الأبرز في البرامج الثورية التحويلية للمجتمع، مع حضور أقل بروزاً للجانب المعنوي والنفسي والمعرفي في هذه البرامج، على الرغم من المحاولات للدفع بتطوير هذا الجانب، ولكنها لم تتحول إلى اتجاه سائد في الحركة الثورية.
كتلك التجارب التي شددت على دور «الثقافة البديلة» وأدواتها (التجربة المجريّة-الهنغارية مثالاً)، والتشديد على أن يتضمن البرنامج البديل طرح التحقق الفردي الشامل وحاجاته المادية والمعنوية (كتعبير عن مقولات ماركس حول حل مسألة الاغتراب وتحقق الذات الفردية، والتي وضّحها لينين، وشدد عليها ستالين في تعريفه للاشتراكية، وعبر عنها الروائيون والشعراء الاشتراكيون). ولكن التعقد الإجتماعي طوال عقود المشروع الليبرالي من توسيع لهامش الفرد والمناورة الرأسمالية في الإشباع الوهمي للحاجات النفسية الذاتية والسعادة السطحية الضيقة، رفع من وزن العنصر النفسي والمعرفي. وأصبح لزاماً على البرنامج البديل أن يتناولها ليس فقط على المستوى النظري العام، بل البرنامجي المباشر، في خطوات حلّها الملموسة.
فهذا الوزن النفسي والمعرفي الحاضر بقوة ضمن حالة عدم الرضا الشعبية قد يكون عامل كبح وشدٍّ رجعي للخلف في ذهن القوى صاحبة المصلحة بالتغيير، وقد يكون، على العكس، مصدراً لتزخيم مشروع التحويل الاجتماعي. أخذاً بالاعتبار الحرب الفكرية والدعائية والثقافية للقوى الرجعية على هذا المستوى بالتحديد. إذاً ينبغي تعطيلها عبر تبني الوزن النفسي والمعرفي في برنامج التغيير الملموس، بتناول علني وصريح.
فهم هذا التناقض بين الاتجاهين في الحركة الشعبية دعا إليه مبكراً ويلهلم رايش (على الرغم من شطحاته السياسية)، الباحث النفسي النمساوي، الذي تحول لاحقاً إلى مواقع فوضوية ومثالية. أكد رايش، وتحديداً في كتابيه «سيكولوجيا الجماهير الفاشية» و«ما الوعي الطبقي»، أن التركيز على عاملي الجوع والفقر، والاتجاه الاقتصادوي في الماركسية، كانت أسباباً أساسية في عدم القدرة على جذب القوى التي وجدت في هتلر ومشروعه نموذجاً ورمزاً حتى في أبسط القضايا كاللباس العسكري والفرق الموسيقية ورموز القوة (البطولة) القومية، وحتى تجمعّات الشباب الهتلرية التي أمّنت أطراً للتفاعل الشبابي، كتمرد على المنطق المحافظ للمجتمع «على الرغم من شكلية هذه المعايير». ويقول رايش إن القوى الثورية وقتها فشلت في تناول هذه الجوانب المعنوية والذاتية، أي مهمّة فهم «ما الأفكار والرغبات التقدمية التي تتواجد تِبعاً للفئات والمهن والأعمار والجنس» و«ما الرغبات والهواجس والأفكار التي تعيق تطور المظهر التقدمي (الثوابت التقليدية)»، ويكمل: «لكن منظّمة كانت ترفض كل سيكولوجيا وتنبذها بوصفها مناهضة للثورة لم تكن ناضجة ولا مهيأة لمثل هذا العمل».
في تخطي الكبح والشدّ الرجعي
هذا التناقض القائم في الحركة الشعبية نابع أساساً من دور المستوى الفوقي (المعرفي، الثقافي، النفسي والوعي عامّة) وتأثيره على التطور الاجتماعي. وتجاهل هذا الدور يعني إسقاط جدلية المجتمع، واتخاذ موقف ميكانيكي اعتماداً على دور العوامل الاقتصادية- الاجتماعية وحدها. ودور الوعي كثَّفه لينين بقوله «الفقر وحده لا يصنع الثورة، بل وعي الفقر». وإذا أضفنا الاغتراب والجانب النفسي تصير المقولة «بل وعي الفقر والاغتراب والحرمان المعنوي والنفسي» هو ما يصنع الثورة.
جوانب سريعة
رفض الإنسان للمجهول، وحاجته لفهم العالم بشكل جديد بعد تفكك العالم القديم من حوله، ووعي موقعه في العالم الجديد، وكيفية تحقيق كل طموحاته وأهدافه الوجودية بشكل ملموس، والتي من أجلها انتفض (ولو ضمنياً لم يعيها بشكل واضح)، هي عوامل تفرض على القوى البديلة أن تساعد الإنسان على تخطي غموض الجديد، وإسقاط وإضعاف وزن وثقل فهمه وثقافته وتصوراته السابقة عن العالم. عبر تقديم تصور جديد عن العالم أبعد من السياسي والاقتصادي، بل التعبير عن كل الجوانب التقدمية في الفرد، حتى لا تبقى المعاني القديمة وحدها هي التي توجهه. فلا يمكن للتصورات والمعاني القديمة أن توجّه إرساء مجتمع جديد شامل، لا بل هي تتناقض معه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 939