أزمة فنية- أدبية أم أزمة إبداع للجديد؟
في المادة حاولنا الإشارة إلى البعد النفسي- التاريخي في معالجة المسألة الفنية والأدبية كعملية إبداعية جمالية في المرحلة التاريخية الراهنة. وفي هذه المادة سنتوسع بالأزمة التاريخية للظاهرة الفنية والأدبية ارتباطاً بالقاعدة النفسية التاريخية التي تنهض عليها هذه الظاهرة. ولهذا لا يضع هذا التحليل في بؤرة اهتمامه الجانب المؤسسي التجاري الاستهلاكي الفني والأدبي السائد ومنطقه الاستهلاكي الربحي بقيم الانحطاط أو العدوانية أو الفردانية، ولا الجانب النخبوي المتعالي الذي يفصل الفن عن الفئات الاجتماعية الواسعة التي يحتقرها هذا التيار ويعتبرها غير مؤهلة للتذوق الفني. بل إن ما يشكل بؤرة اهتمام هذا التحليل هو أزمة العملية الإبداعية الفنية في مرحلة سيادة الليبرالية كتيار يميز الاتجاه الثقافي الفكري السائد في العالم. هذه الأزمة التي تشكل أساس الشح الإبداعي الذي يطبع الظاهرة الفنية والأدبية عامة إنتاجاً وتلقياً بسبب من تأثيرها في عمليات الوعي وعلاقة الإنسان بنفسه والواقع.
العملية الفنية والأدبية كمسألة إبداعية فكرية
لا ينفصل الفن والأدب كشكل من أشكال الوعي الإنساني عن المحتوى الفكري لهذا الوعي الذي يعكس علاقة الإنسان مع الواقع. فالدور الوظيفي للفن والأدب يكمن بإنتاج عمل جمالي يعبر عن الطموح الإنساني والمتطلبات الروحية العميقة للناس ويعبر عن مصالحهم. لهذا لكي يكون الفن فناً بمعناه الوظيفي، أي لكي يساهم في التحرر الإنساني كونه يعكس الحقيقة التاريخية في شكلها الجمالي، فهو بالضرورة عملية فهم للواقع بالمقام الأول. هذا ما ميز مجمل الإنتاج الفني والأدبي العالمي في مختلف مراحله التاريخية منذ لوحات إنسان الكهف في صراعه مع الطبيعة وعلاقته بالشمس والكواكب والحيوانات وتركيز أعماله الفنية بالبدائية حولها، والرقص الفولكلوري الشعبي في المجتمعات الزراعية الذي يمجد عملية الحصاد والزراعة وارتباطها بالحياة والإنتاج والوفرة، وهكذا هي الملاحم التي مجّدت عصراً غابراً لشعب ما وطموحه لاستعادتها، وصولاً إلى الشعر والموسيقا، وفيها كلها ينعكس الصراع الإنساني. وبنية العمل الشعري، كما بين «جورج تومسون» في كتابه «الماركسية والشعر»، هي تمثيل لعملية جدلية صراعية بين الشيء (الألم الإنساني) ونقيضه (الحلم بالحالة المأمولة) والتوليفة (الألم في طوره الجديد الذي يرى أفقاً للحل). في نظر تومسون تمثّل هذه العملية الجدلية: «ثورة في نظرتنا إلى العالم»، «فإذا كان السحر هو صراع بين الإنسان والطبيعة للسيطرة عليها، فإن الشعر هو بين الفرد والمجتمع». وهكذا كان الفن الاشتراكي الذي مثّل الصراع ضد الرأسمالية والطموح التحرري في زمن الرأسمالية.
في هذا كله تكمن صورة محددة عن العالم في كل عمل فني، هي كشف لتناقضات المجتمع. هذا لا ينتقص من الجمالية في ذلك، بل هو أساسها. فالظاهرة الجمالية لا تنفصل عن المدرك ووعيه وحاجاته ورغباته ومشاعره، وهي لا تصير جمالية إلّا إذا عبّرت عن مكنونات صراعاته وطموحاته. وكان بيرتولد بريخت قد عبّر عن هذا الموقف نظرياً وعملياً في تنظيره للمسرح الملحمي والموقف من العمل الفني عامة. ويحدد بريخت وظيفة المسرح المساهمة مباشرة بعملية التغيير، وعدّد شروطاً منها (وضعها بريخت في جدول واضح شهير لمسرحية «مهاجوني»-1930): إيقاظ نشاط الجمهور المشاهد، تزويد الجمهور بالمعلومات، يلزمه باتخاذ قرارات، دفع المشاعر إلى حالة الفهم، أي نقل المعاني الضمنية خلف هذه المشاعر إلى حالة الوعي، ولهذه الغايات يدرس المسرح الملحمي الإنسان والمجتمع وتناقضاتهما، والكشف عن دواعي وأهداف الإنسان في مجتمع متحول قابل للنقلات النوعية. ومن أهم المؤشرات على رفض بريخت لكل ما من شأنه أن يخفّف من وعي المشاهد ويقظته، كان يصر على إبقاء الإضاءة قوية حتى في اللوحات التي تقدم مشهداً في الليل مثلاً!
البنية الليبرالية والعمليات المعرفية والإبداع
في كتابه (1968) «عقل إنسان ذاكري- كتاب صغير عن ذاكرة واسعة» يطرح عالم الدماغ والنفس- عصبيات، السوفييتي الكسندر لوريا مسألة للبحث المستقبلي أمام علم النفس، هي إنتاج قانونية دقيقة لتطور الشخصية الإنسانية. ولكنه يقول: كيف يمكن للتطور غير المتوازن لتطور الإنسان أن يشكل تأثيراً على الشخصية منتجاً «متلازمات» شخصية، وإذا اعتبرنا أن المرحلة الليبرالية تميزت بتعظيم التناقض الداخلي للإنسان بين حاجاته الروحية وبين الأوهام حول كيفية تحصيل هذه الحاجات، فإن هذه الحالة من الصراع الداخلي المتعاظم، خصوصاً في المجتمعات التابعة، التي جاءت فيها هذه التناقضات أكثر حدة وانفجاراً (بسبب القيم المحافظة غالباً والمتناقضة مع الذاتية التي ظهرت بقوة) شكلت ولا بد نمطاً عاماً (متلازمة) من الشخصية، هي متلازمة الشخصية الليبرالية في سلوكها وممارستها وقيمها، وللتكثيف يمكن القول إنها هاربة من تناقضتها وتناقضات الواقع مهما عاندته.
تعطُّل العملية الإبداعية
بسبب هذا الهروب من التناقضات (أهم دلائله هو السلوك الهستيري اللاهث نحو الترفيه السريع) تعطلت إمكانية كشف هذه التناقضات والاعتراف بها. وهكذا تعطلت مجمل العملية الإبداعية التي تشكل أساس العملية الفنية الإبداعية. فمسألة فهم العالم وجديده معرفياً ليست في أولويات من تقبّل العالم كما هو ويعيش حسب شروطه. وخصوصاً أن تيارات سياسية جذرية تساهم في مسألة فهم الجديد التاريخي لا زالت تواجه كوابح عديدة. ولكن الأزمة في متلازمة الشخصية الليبرالية هذه هي أزمة الرأسمالية في آن، ومسألة مواجهتها لواقعها أمر حتمي إذا ما نضجت مسألة حلّها، وهذه أزمة فنٍ فاقد للرؤية وللجديد. ولكن الفن الجديد في المرحلة الجديدة من تاريخ البشرية يولد مع الجديد ويعيش صعوباته في آن، وحسب هيغل: «إن قوة الفكر تكمن في النظر في وجه السلبي والتعامل معه. فهذا التعامل مع السلبي هو القوة السحرية التي تحوله إلى وجود».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 931