عن إرادة التغيير وعجز التيار الأخلاقي
عندما قام أحد عناصر الجماعات المتطرفة في لبنان بالاعتداء على القوى الأمنية والعسكرية في رمضان الماضي، كان التعليل بأنه يعاني من مشاكل نفسية، أي: أنه لا يملك القرار ولا الإرادة فيما يفعله.
بينما قامت الإدارة الأمريكية بتعطيل صدور دراسة عن نتائج الاحتباس الحراري في كاليفورنيا، التي قدّرت خسائر- بمليارات الدولارات- في القطاع الاقتصادي وحده، حيث تأخر صدور الدراسة بضعة أشهر، إلى أن ألغيت فيها جميع النقاط التي تذكر الاحتباس الحراري، وذلك لأن إدارة ترامب ترفض الحديث عن الاحتباس الحراري، وتجنّد العديد لدحض وجوده. ونشرت الدراسة «المنقوصة» في مجلة علمية موثوقة من قبل الصروح العلمية والبحثية، ما يعني أنها أصبحت جزءاً من الرأي العلمي في العالم، وستقوم دراسات أخرى تستند على هذه الدراسة «المنقحة سياسياً». ما قامت به الإدارة الأمريكية جعل من الموضوع بحكم الموجود بالقوّة، ولم تأخذ برأي أي من العلماء والباحثين، وحتى الكوارث الطبيعية التي نعيشها. أي أنها سلبت حرية الإرادة، وتحديداً في المجال العلمي الذي أكثر ما يروّج عنه أنه «موضوعي»، وذلك في كونها ساهمت في تعزيز الاحتباس الحراري، وفي تضليل الرأي العام حول الموضوع.
وعندما تم ويتم تهجير الملايين بسبب النزاعات والحروب لا يملك هؤلاء حرية الرأي أو الإرادة في تقرير مصيرهم، وفي تقرير إذا ما كانوا من الأساس يريدون الحرب أو النزوح.
أين نمتلك حرية الإرادة؟
تقوم عدة نظريات فلسفية ضمن التيار السائد حول امتلاكنا حرية الإرادة أم لا، وهي مرتبطة بعنصرين، الأول: هو حتمية الكون. وبالتالي، حتمية مستقبل وحيد له. والثاني: هي المسؤوليات الأخلاقية والتي ترتبط بالأحكام والممارسات كالثناء الأخلاقي أو اللوم مثلاً. وتنطلق هذه النظريات من توافق أو عدم توافق الحتمية مع الإرادة الحرة. وتنقسم النظريات إلى منظّر للإرادة الحرة، وإلى من يعتبر أنها غير موجودة أو غير ممكنة.
تقوم النظرية التحررية مثلاً على رفض التوافق بين الحتمية والإرادة الحرة، ورفض التوافق بين المسؤوليات الأخلاقية والحتمية أيضاً، وإنما تربط الإرادة الحرة بالمسؤوليات والقرار الأخلاقي. هذا التيار يمثل المنطق الليبرالي في السياسة وعلم النفس الإيجابي في التعامل اليومي مع الواقع أو بين البشر أنفسهم. فهم من دعاة أنه: بمسؤوليتك الأخلاقية تمتلك حرية الإرادة، مثلما فصل فرويد النفس إلى خير وشر. فالنظرية التحررية التي تقول بوجود حرية الإرادة ستلوم الفقراء لفقرهم، وستلوم من هم تحت الاحتلال لوضعهم وستلوم أي ضعيف ضدّ أي قوي. فهي بذلك تمارس منطقاً «دعوياً أخلاقياً» في التعامل مع الواقع.
أمّا النظرية التوافقية، فهي النظرية الأخرى التي تقول بوجود حرية الإرادة، ولكنها تقول بتوافق الحتمية والمسؤوليات الأخلاقية وحرية الإرادة. وهي متشابهة إلى حد ما مع النظرية التحررية، إلّا أنها تتعارض معها في كون النظرية التوافقية تعتبر أنَّ إمكانية حرية الإرادة لا تنفي حتمية الكون.
بينما نظرية اللاتوافقية التي تناقض النظرية التوافقية تنفي التوافق بين حتمية الكون وحرية الإرادة، لذا تقول بعدم إمكانية أو وجود لحرية الإرادة إذا كان مستقبل الكون محتّماً. لذا بالنسبة لها إنّ كل ما سنصير إليه هو أيضاً محتّم، لذا فلا توافق بين الحتمية والمسؤوليات الأخلاقية وحرية الإرادة ولا إمكانية لها.
وتقوم النظرية الأخيرة وهي: التعديلية في خط الوسط بين النظريات الأخرى، فهي لا تنفي حرية الإرادة وتعتبر أنه هناك توافق بين الحتمية وحرية الإرادة في حال تعديل نظرتنا إلى أنفسنا فقط. وتعتقد بوجود توافق بين الحتمية والمسؤوليات الأخلاقية، ولكن لا تعتقد بوجود توافق بين المسؤوليات الأخلاقية وحرية الإرادة.
وجميع هذه النظريات لا تقدم حلاً للظروف الموضوعية التي تواجه الإنسان، وحتى تلك الظروف البدهية. وأساس هذه النظريات يقول: طالما لا يمكننا اختيار ظروفنا، كالعائلة أو الوضع المعيشي أو الاجتماعي، ولكنه يمكننا أن نغيّر نظرتنا إلى واقعنا. أي: الدعوة إلى التطلع إلى الأمور بإيجابية، وليس تغيير السلبي إلى إيجابي. هكذا مثلاً يتحدث تيار علم النفس الإيجابي في التعاطي مع الأمور اليومية أو الأمراض أو المصاعب الحياتية. الدعوة للإيجابية هي تنظير إلى أن قدرة التحكم هي دائماً بيد الأفراد عقلياً ونفسياً، وليست خارجهم من خلال تغيير الظروف نفسها. هذه الدعوة هي دائماً في الملعب نفسه مع السائد، كونها تنفي الإمكانات الموضوعية والفرص المتاحة التي يستند إليها الاختيار الفردي العقلي والأخلاقي.
فنحن قد نمتلك حرية الإرادة من داخل الظرف الموضوعي وليس من خارجه، أي: ما مدى الإمكانات التي يسمح بها الظرف الموضوعي للاختيار. ولهذا الظرف الموضوعي عدة مستويات، كالوضع المعيشي والاجتماعي، وجميع ما يأتي ضمنهما، وكله يأتي ضمن الحدود الطبقية وطبيعة النظام القائم. مضافاً إلى ذلك أنه لا يمكن أن نمتلك حرية الإرادة من دون توافق قرارنا مع علمية الوعي الذي نمتلك وتوافقه مع الظروف نفسها. أي: أنه حتى لو سمح لنا الظرف الموضوعي بحرية الاختيار لا يمكن لنا أن نختار بحرية إذا كان وعينا لا يسمح بهكذا خيار، وخاصة إذا كنا نتحدث عن حرية اختيار مصيرية وتغييرية.
تدعو الشيوعية إلى إعطاء الشعب حرية الاختيار وحرية تقرير المصير، ولكنها لا تدعو إلى ذلك من دون الدعوة إلى فتح الفرص والإمكانات الموضوعية أمام الشعوب، وتعزيز التربية والوعي العلمي الذي يمكنه أن يبني أفراداً قادرين على القرار والاختيار، هذا الأمر المستحيل في النظام الرأسمالي الذي يريد أفراداً تابعين في خياراتهم ومحدودين في فرصهم ومغلقين على التغيير. أليس كل ما سبق هو تعبير عن مقولة ماركس: «الحرية هي وعي الضرورة»؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 922