مجدداً: إنتاج قانون الصراع التاريخي ضد الفهم الميكانيكي
محاولة التّجريد تشكل دائماً تحدياً للفكر، وما إن يعرف العقل أهميتها حتى تصبح عملية التجريد مغريةً ومطلباً. خصوصاً إذا كانت المهمة العملية المطروحة على الفكر النظري تطال التاريخ وقوانينه، وحركته الجدلية في جديدها النوعي. هذا الجديد الذي لا يظهر جاهزاً أمام العين، بل عليها أن تصارع لكي تنتجه. وكون الصّراع السياسي اليوم لا يزال، وسيبقى في المرحلة الراهنة، يستند إلى عقدة نظرية أساسية، هي: توصيف المرحلة التاريخية الراهنة، وموقعها في التاريخ، هكذا إذاً مازلنا ضمن المعركة الفكرية لإنتاج هذا التوصيف نفسه وتثبيته. إنتاج القانون التاريخي(الذي لا يوجد جاهزاً) لهذه المرحلة، أي: قانون التناقضات التي تطبع البنية الإمبريالية، وأفق حل هذه التناقضات.
لينين وضرورة توصيف الجديد التاريخي
التراث الماركسي- اللينيني لا يقدم المعرفة النظرية التاريخية المنتجة فقط، بل شروط إنتاج تلك المعرفة أيضاُ. فالمعرفة المُنتجة وحدها تتحول إلى جمود إن لم تتجدد ويعاد إنتاجها على ضوء الجديد التاريخي. والجمود يشكل خطراً جدياً على فكر التغيير، لأن الاستنتاجات المبنية عليه قد تتعارض مع الظروف الجديدة، مما يقود إلى أخطاء سياسية قاتلة. ويشدد الشهيد مهدي عامل: أن «لينين في ممارسته النظرية شديد الانتباه للشروط التاريخية الجديدة التي هي حقل فكره ونضاله». هذه الشروط، يقول مهدي: إنها «لم تكن مماثلة للشروط التي تحقق فيها النشاط النظري عند ماركس». واستناداً على الجديد التاريخي يشير مهدي إلى اكتشاف لينين «المهم جداً» للقانون النظري الماركسي: قانون تفاوت التطور(«مهدي عامل: مناقشات وأحاديث»، «لينين وأهمية العملية الثورية في تحقيق النشاط النظري»، ص213). وكما أن الشروط التاريخية لتحقق الفكر لا تتماثل بين زمن لينين وماركس، فهي لا شكَّ اليوم أيضاً لا تتماثل مع شروطنا التاريخية. عدم التماثل هو ذلك الجديد الذي نشأ على تطور البنية الإمبريالية نفسها التي نظّر حولها لينين.
ما الجديد التاريخي؟
الجديد التاريخي قدّمت حوله الكثير من المواد، كشكل الاستغلال الإمبريالي في مرحلة التوسع النيوليبرالي، وتعمّق النهب في شكله الاقتصادي، ووصول الرأسمالية إلى حدود هوامشها التاريخية، ولكن سنركز على نقطة واحدة أساسية تضيء على ملامح قانونية الصراع ضد الإمبريالية اليوم، ضد النظرة الميكانيكية للتاريخ.
أولاً: إن القرن الماضي كان عصر ثورات عالمية قطعت مع الإمبريالية. القطع كان نسبياً، فبعضه كان أكثر جذرية من البعض الآخر. هذا القطع له دلالاته الجوهرية. فالتناقض التفاوتي بين المراكز الإمبريالية والأطراف التي انفكت نسبياً، انتقل من تناقض لا وسيط فيه، حيث كان الاستعمار مباشراً بالحديد والنار في حضور شخص المستعمر نفسه، إلى تناقض تقوم الدولة «المستقلة» (اشتراكية كانت أو تحت حكم بورجوازي) موقع الوسيط فيه. ثانياً: تزامناً مع تراجع التجارب الثورية والتحررية تعمَّق التوسع الرأسمالي عمقا واتساعاً، ولكن ضمن شروط استغلال جديدة (نهب اقتصادي مالي) إضافة إلى تمركز كبير في رأس المال أكثر مما كان عليه، هذا التمركز قبل الحرب العالمية الثانية، وتحديداً لصالح قوى رأس المال المالي. وعلى أساس النقطتين الأولى والثانية، فإن التناقض الذي انفجر على أساس الأزمة الرأسمالية العالمية لم يفرض حرباً بين دول استعمارية على أسواق كانت موزّعة مسبقاً نحو إعادة توزيعها (كما ظهر كلاسيكياً في الحربين العامليّتن الأولى والثانية)، بل حروباً بين القطب الإمبريالي وبين الدول (وضمنا الشعوب) التي تأسّست في مرحلة التحرر، لأن التمركز الشديد لرأس المال لم يعد منافسه الأساس رأس مال استعماري آخر، بل المنافس الأساس هي الظروف التي نشأت في مرحلة الحركات التحررية في القرن الماضي. لهذا فإن الدول كأجهزة وما تمثله من علاقات ومؤسسات، بغض النظر عن القوى المسيطرة فيها، التي يمكن اعتبارها تكثيفاً للتّركة «الثورية»، هذه الدول هي الوسيط المانع بين رأس المال الإمبريالي وبين النهب المباشر للثروة مدفوعاً بقانون توسيع الربح، وخصوصا نتيجة الأزمة. ولهذا وحسب التاريخ الجذري والحجم الجيوسياسي لكل دولة، يتحدد الهجوم الإمبريالي عليها (أساسيا تجاه روسيا، الصين مثلاً...). فالأزمة العميقة والشاملة تهدد الدول في وجودها ليس فقط كهجوم «خارجي» للإمبريالية، بل أيضاً كاضمحلال للدولة موضوعياً بسبب أن إطلاق يد الرأسمالية في الدول التي تحررت من الاستعمار نسبياً يتعارض موضوعياً مع منطق تشكل هذه الدول والمجتمعات التي قامت ضد رأس المال نفسه. إذا كان هذا الظرف التاريخي الجديد يؤسّس لنا من موقع الماركسية مجالاً للتفكير النظري، فهو يؤسس بالمقابل واقعاً موضوعياً تجريبياً للنخب المسيطرة في الدول التي تشهد هذا النوع من الأزمة الجديدة (أي أن قانون المرحلة التاريخية قد لا يكون واعياً دائماً لهذه النخب) كصراع بين هذه الدول والإمبريالية. ولا بد لأفق هذا الصراع أن يكون مضاداً لأساسه، أي: القطع مع العلاقات الرأسمالية كنمط إنتاج داخلي وعالمي حسب لينين نفسه، ولهذا يأتي الاستنتاج أن الاشتراكية تطرح اليوم على جدول الأعمال بقوة.
نتائج سياسية
للتناقض الموصّف أعلاه (المطلوب توسيعه) نتائج سياسية هامة، مثلاً: يؤسس ليس فقط لتوصيف الدول التي تصارع، والتي يعتبرها البعض «إمبريالية» معبراً عن فانتازيا تاريخية! بل يؤسس أيضاً لمدى تعقيد شروط الثورة نفسها وأسلوب خوضها (عالمياً ومحلياً). هذا التعقيد وتلك الشروط التي نرى جانباً منها مثلاً في التعاون العالي المافوق وطني بين الدول (حتى بين الدول التي ترث تركة التحرر وبين أوروبا مثلاً). القانون التاريخي الراهن مطلوب إنتاجه بوضوح، اللّهم إلّا إذا أصرّ البعض على الميكانيك في فهم التاريخ.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 914