الشاعرية والروحية في الفن
«يجب على الإنسان أن يبقى إنساناً حتى ولو كان موجوداً في ظروف لا إنسانية»، هذه مقولة لتاركوفسكي، انعكاساً للبيئة التي نشأت الثقافات الشرقية فيها والتي منها نهضت حضارات العالم.
لقد كان الفنان في الحضارات الشرقية ومنذ مئات السنين، هو صوت شعبه وإلهامه، ويعبر عن حالته الروحية بواسطة اللغة التي يمتلكها، ويوصل الأفكار والمشاعر والآمال لشعبه، وبالتالي يُغذي حالة المجتمع الروحية.
إن كل فنان يجب أن يكون شاعراً بإختصاصه (لا أقصد هنا الشعر بالمعنى الحرفي)، ولكن المقصود التعامل مع فنه وتقديمه لمجتمعه بصورة شاعريه..
مهمته بالدرجة الأولى: خلق هارموني من فوضى هذا العالم، والسينما في جوهرها وتكوينها البصري، هي: فن شاعري خارق، لأنها قادرة على تجاوز المعاني الحرفية والتتابع الحياتي اليومي وما ندعوه بالبناء الدرامي. وتمتلك خصوصية هامة وهي: تثبيت الزمن والتعبير عنه، الزمن- بالمعنى الفلسفي والشاعري والحرفي، وتمتلك أيضاً حرية المكان والزمن دون أي تشويش على المشاهد، أي: قادرة على أشياء لا تقدر عليها الفنون الأخرى. وكلنا نعلم أن مشكلة الإيقاع التي تلعب دوراً مهماً في الشعر، ومشكلة الطول والوتيرة هما ذاتا أهمية خاصة في السينما. الفيلم بشكل عام وسيلة لجمع الأجزاء في تكوين موحد، فهو يتكون من مئات اللقطات، مثلما يتكون الموزايك من قطع مستقلة ذات ألوان مختلفة، وكل قطعة على حدة لا تمتلك أي معنى عندما تنتزع من السياق، لأنها تحيا ضمن مجموعة فقط. إن أي فن يصبح شاعرياً عندما يكون في أعلى وأفضل أمثلته: «ليوناردو دافنتشي» كان شاعراً عبقرياً في الرسم، لا يمكن وصفه وتسميته رساماً، ولا يمكن تسمية «باخ» مؤلفاً موسيقياً، و»شكسبير» كاتباً، و»تولوستوي» نثرياً... إنهم شعراء، وهذا ما أقصده عندما أقول: إن للسينما مغزاها الشاعري الخاص، ويجب على الكُتّاب والمخرجين معالجة المشاكل الجمالية والأخلاقية بشكل شاعري مفعم بالارتقاء الروحي في المجتمع وتحريضه لتجاوز أزماته ومشاكله دون أن يقف وقفة الواعظ.
إن هذه المفاهيم والقيم تضمحل في المجتمع الغربي الرأسمالي، حيث إن إنجازات الديمقراطية الغربية التي خدعت الإنسان ليشعر بنفسه حراً، انتزعت منه في واقع الأمر الإيمان بأن يأتي إنسان آخر ليحل له مشاكله (ما عدا نفسه)..
وهذا يدل على ثقافة أنانية بنيت عليها الثقافة الغربية الرأسمالية، وأغلب الأعمال الفنية المصنوعة في الغرب بدءاً من عصر النهضة كانت بمثابة عويل دائم للروح الإنسانية تعبر عن آلاف النزعات.. انظروا كيف أنا سعيد، انظروا كيف أنا معذب، كيف أحب، كيف انتصر.. كيف أموت.. أنا.. أنا.. أنا!!
ماذا نعني بكلمة «الروحية» في الفن؟ إنها اهتمام الإنسان بمعنى وجوهر الحياة.. لماذا نعيش؟ إلى أين نمضي؟ ما معنى وجودنا على الأرض طول سنوات حياتنا؟.. والفنان الذي يطرح على نفسه هذه الأسئلة يمتلك مستوى راقياً ورفيعاً من الروحانيات، ولا يمكن أن ينحدر دون المستوى الذي وصل إليه، لأنه سوف يتطور ويمضي قدماً، مدركاً مهمته الفنية تجاه نفسه والمجتمع ويعيش بهاجس، وهو: كيف لي أن أسخّر موهبتي لخدمة الإنسانية؟ وهكذا يولد الفن الحقيقي.
لا ننكر وجود فنانين في الغرب الرأسمالي شذّوا عن الفكر الذي فرضته عليهم أنظمة تلك الدول، مثل: باخ على سبيل المثال، لكونه منقطعاً عن التقاليد الغربية بالمعنى الروحي، لقد نسي ذاته في إبداعاته، وقدم نفسه ضحية لفنه المفعم روحياً، هنا يكمن المحرض الحقيقي للفنان.
عندما نذكر أعمال ليوناردو دافينتشي، أو بييرو ديلا فرانشيسكا وأندريه روبليف وغيرهم، فإننا نرى عالم الإنسان الداخلي الهائل والقوي في أعمالهم، علماً أن روبليف قد عمل لفترة من الزمن برسم الأيقونات وكان يعمل تحت أشد أطر الشرائع الدينية قسوة، ويرسم مرغماً من الطرف المشار إليه، فقد كان هناك قالب معين لكل أيقونة، ومن المستحيل خرق هذا القالب من الناحية الشكلية والتشكيلية واللونية، والأمر المدهش فعلاً أن روبليف رغم كل هذه الظروف أثبت عبقريته وتميز عن كل من سبقه في هذا المجال، والسبب هو روح الفنان المفعمة التي كانت تظهر بشكل واضح في رسوماته. ولديَّ انطباع أن بيكاسو رغم شهرته وحرفيته لا يمتلك تلك الروح التي يمتلكها أندريه روبليف، لقد وضع بيكاسو أمامه مهام مختلفة وأراد أن يقيم توازناً بين الفنان والزمن المعاصر، لهذا عبّر في أعماله عن الديناميكية العوجاء لتطور الحياة المعاصر، وبحث عن الهارموني ولم يعثر عليها لأن شعاره كان التفتت، لم يكن بيكاسو فناناً روحياً، ولم يغص إلى أعماق الوجود البشري، كان يرسم الموديل نفسه لكن في زوايا وإضاءات مختلفة، واهتم بالتواجد الخارجي للإنسان دون أي عمق.. ريما يمكنني القول عنه: أنه باحث في علم الاجتماع لا غير.
لا أدري ماذا حدث؟ لقد فقد الفنان سره في القرن العشرين، أراد أن يحصل على كل شيء وبسرعة!! فالشاعر يكتب ويريد لأشعاره أن تنشرَ مباشرة. في حين أن كافكا كتب رواياته ومات وترك لصديقه المقرب وصية يطلب فيها إحراق كل كتاباته، ومن حسن الحظ أن الصديق خالف وصيته آنذاك ونشرها علماً أن كافكا قد عاش في القرن العشرين، لكنه لا ينتمي إليه لأن أخلاقياته تنتمي إلى الماضي.
كما أذكر زملائي في الكلية كيف كانوا يتناقشون وبكل صراحة عن طموحهم بإخراج الأعمال التجارية، وكل منهم يؤكد أنه سيكون مخرجاً ولا يهمه أن يكون سينمائياً بكل معنى الكلمة، أي: يعمل ما يريحه لأن السينمائي إنسان يبحث دائماً عن الفكر الذي يتغذى منه ويغذي به فنه.
في الختام: لا يجدر بي إلّا القول: إن الفنان الحقيقي لا يُجربّ ولا يبحث فحسب!! بل يجد وإن لم يجد فهو عقيم لا يخدم مجتمعه بأية حال.