عن «كوربين» والـ «فيسبوك» الاشتراكي وقانون تفاوت التطّور
في مواجهة المنطق الربحي- الاحتكاري ودوره الإيديولوجي التّضليلي وتوجيهه للوعي، لمواقع التّواصل الاجتماعي (أهمها «فيسبوك») والمنصات الإعلامية الكبرى، قُدِّمت طروحات حول مواجهة دور هذه المنصات في حياة الملايين من أجل بديل ديمقراطي عام، ومنها ما قدّمه «جيمي كوربين» (حزب العمال البريطاني) في «سلسلة من الأفكار الجذرية لبناء إعلام حرّ وديمقراطي لأجل العصر الرقمي» *
وأبرز ما جاء في الطرح: ضرائب كبيرة على عمالقة التكنولوجيا وتوزيع أرباحها على وسائل الإعلام العامّة، والإدارة الجماعية لهذه الوسائل، وتوظيف التقنيات الجديدة في صنع القرار عبر الشّبكة، وإنشاء منصات تواصل اجتماعي عامّة، والسيطرة الجماعية على البيانات.
وأشار صاحب المقال «لويس باسيت» لطروحات أبعد كتأميم هذه الوسائط، وتحديات هذا التأميم العملية والسياسية، كصعوبة تحديد ماذا يمثل «فيسبوك» مادياً، كونه يستند على «عمل» المشاركين فيه ومعلوماتهم، وبالتالي، القدرة على تفادي الضرائب، إضافة إلى الحدود السياسية لإيقاف «نموذج أعمال فيسبوك» القائم على الإعلانات بغاية الربح وإغراق الناس في الإدمان السلوكي. وحسب «كوربين» فإن البديل ما بعد الرأسمالي يعني: مزجاً لنهجي المصدر المفتوح والرقابة الديمقراطية على هذه المنصات. ولم يستبعد قيام نماذج أخرى في الفضاء الإلكتروني إلى جانب «فيسبوك» كمنصات بديلة مفتوحة وغير احتكارية كـ «ويكيبيديا»، ولكن ذلك يشوبه صعوبات التنافس.
بين العالمي والخاص
إنّ انحكام أفق بديل لتجربة «فيسبوك» كظاهرة عالمية بالنظام الرأسمالي في العالم، وخصوصاً تمركزه التقني في المركز الغربي وكذلك استناده إلى سيادة وضخ فكر هذا المركز، محمولا على البنى الاجتماعية الرأسمالية لباقي الدول (التابعة في غالبها)، فإن فكرة تأميم «فيسبوك» ستشبه في العام أيّة خطوة تأميم أخرى كتأميم شركات النفط العالمية مثلاً، التي حصلت في دول تجارب جذرية مختلفة، حيث إن القسم المحلي من الشركة الاحتكارية «العابرة للقارات» هو ما تم تأميمه فقط، ولم تتأمم الشركة العالمية ككل دفعة واحدة في كل العالم، وهذا منطقي حسب تطور الصراع وتفاوته عالمياً.
أما الأهم، فكون تأميم «فيسبوك» يعتمد في جانب أساس منه على القطع مع الحاجة الإدمانية للمشتركين البشر، بالتالي، إن تحولات جذرية في موقع ودور الناس لناحية التحرر المادي والمعنوي من التهميش والانتقال إلى الفعل والوعي بإنتاج القيمة الذاتية من خلال تطوير المجتمع الناشئ وعبره، وليس عبر التعويض الوهمي عن غياب القيمة والدور والرضا المعنوي عبر المنصات الافتراضية التي تعمل كصالة عرض لـ «البضاعة» البشرية التي يطلب عارضوها تقييمها، حيث «صاحب» البضاعة هو البضاعة نفسها. وهذا التحرر يجري وسيجري ليس دفعة واحدة عالمياً، بل تبعاً لتقدم التجارب السياسية والصراع في كل دولة على حدة.
البديل الخاص
فعلياً، لا يتفاعل المشتركون على «فيسبوك» الذين هم عدة مليارات كلهم مع بعضهم البعض، بل على شكل مجموعات مناطقية أو سياسية أو اجتماعية أو وطنية لها طابع وظيفي ثابت غالباً ولكن متنوع... وهي محدودة عددياً كذلك. بالتالي يمكن للتجربة السياسية البديلة أن تقدم بدائلها الوطنية تقنياً، وتبقى قادرة نسبياً على تشكيل الفضاء حيث يوجد: «الجميع» هناك. أليست منصة «وايبو» الصينية هي بديل تقني (ولا نقول وظيفي سياسي) لـ «فيسبوك» (المحظور) في الصين؟
أما الجانب الأهم، غير التقني، هو: أن تحولاً نوعياً في الدينامية السياسية للتجارب السياسية الاشتراكية البديلة من موقع المجتمعات المتأثرة إلى الموقع الفاعل، يعني: تحولاً نوعيّاً في الأدوار الفردية من مُهمشٍ إلى فاعلٍ منتجٍ شاملٍ اجتماعياً كفرد مشترك في إدارة المجتمع. هذا سينقل ثقل حركة التاريخ، أو ما يجري في الحياة، من المنصة التي لا يريد الناس أن يضيّعوا ما يحصل عليها (على حد تعبير «باسيت»)، إلى المجتمع نفسه، الذي سيكون هو «الخبر» والحركة التي يترقبها الناس اليوم.
تحول نوعي في الوظيفة
التحولات الاجتماعية ستغير إذاً ليس فقط في ملكية منصات التواصل من احتكارية ربحية إلى جماعية عامة، بل ستتغير وظيفتها عندما يجري تعطيل «نموذج أعمال فيسبوك» القائم على استغلال الحاجات المعنوية للمهمشين المتغرّبين. ولكن التحول الوظيفي نحو أطر لصنع القرار بشكل ديمقراطي على الشبكة كما اقترح كوربين هو اقتراح قد يعتبر فضفاضاً، حيث لا يمكن عملياً لعدة ملايين أن تشارك دفعة واحدة في نقاش قضيةٍ ما وتخرج بقرار «مليوني» ومتزامن، ولا بد لاتباع التنظيم المركزي هنا أيضاً. أي لن تكون هذه المنصات المفتوحة والديمقراطية بديلاً عن آليات وهرمية ومركزية التمثيل الشعبي، ولكنها ستكون مساعداً لهذه الآليات، أقلّه في المراحل المنظورة للمجتمع. أليست مجموعات «الواتساب» اليوم هي شكل مصغّر من هذه الأطر؟
المنصات كهيئات رقابية شعبية
تخديم هذه المنصات لصنع القرار الشعبي، المساعد للهرمية التمثيلية للدولة القادمة وتحصينها، لديه جوانب تقنية، كالسرعة والتزامن و«القدرة على التحشيد» (حسب «باسيت»)، ما يدعم تجاوز الجوانب البيروقراطية (الهيئات الرقابية والتمثيلية التقليدية المرتبطة بالزمن وبعددٍ محدودٍ من البشر) وإخفاء وبطء وصول المعولمة للغالبية العظمى المعنية. هذه الجوانب تعني تحولاً وظيفياً سياسياً أساساً للمنصات، هو الرقابة الشعبية واليقظة على مدار الساعة. هذا الدور تقوم به راهنا صفحات قوى التغيير والأفراد الفاعلين اجتماعياً وسياسياً على «فيسبوك»، ولكنه ليس المهيمن فيه.
إن بديلاً وطنياً ممكناً ليس بالضرورة نفياً «لفيسبوك» (أو غيره من الوسائط) من داخله، بل تنافساً مرحلياً بين الوسائط، وهو ما لم ينفه «باسيت» ولكنه لم يتوسّع فيه. ولكنه سيكون بديلاً لا يشبه «فيسبوك»، حيث يختلف هناك الناس والدولة، والأحلام والمعاني.
*(مراجعة مقال قاسيون- عدد 884: «فيسبوك ما بعد الرأسمالية... تحرير التواصل العالمي»).