السينما العقلية وايزنشتين والشعب الملهم
«إذا كانت الثورة قد جعلت مني فناناً، فإن الفن قد أدخلني إلى صلب الثورة. إن التعمق في دراسة تاريخ الحرب والماضي الثوري للشعب الروسي قد منحني ذلك الدفق الفكري، يستحيل بدونه قيام فن كبير. وبوسعي القول: إن السلطة السوفييتية قد أعطتني، كما لسائر الناس، كل شيء. فهل يعقل بعد ذلك أن أبخس حقّ وطني عليّ؟
إنني ككل واحد منا، أهب، وسوف أهب ذاتي كلياً لوطننا، للقضية العظمى، قضية بناء الشيوعية».
• سيرغي إيزنشتين
تلك الكلمات للفنان وللمخرج العالمي سيرغي ميخائيلوفيتش إيزنشتين. كلمات صادقة كصدقه بحبه لوطنه وفنه وشعبه. وقد استحق بجدارة ما أطلقه عليه العديد من الفنانين والسينمائيين من مختلف بلدان العالم لقب «كلاسيكي الفن السينمائي العالمي». استطاع إيزنشتين بكل طاقته وعبقريته المفعمة بالحماس المضيّ بفن السينما في طريق الشعبية والالتزام الفكري والواقعية، ودعا دائماً إلى معالجة المواضيع الإنسانية بصورة صادقة تخدم الشعب، وتحد من إجحاف المجتمع الرأسمالي المسخ.
مونتاج الأتراكسيون
وما انفك إيزنشتين عن التفكير بسيكولوجية الإبداع لدى الفنان، وسيكولوجية التّقبُل لدى المشاهد، وغاص لسنوات عدّة في أعماق اللغة السينمائية وما تملكه من مفردات ودلالات ووسائل تعبيرية تعجز عن عرضها وطرحها باقي الفنون. أدت تجاربه ودراساته الفريدة إلى ابتكار نمط معين للمونتاج السينمائي.. أطلق عليه فيما بعد «مونتاج الأتراكسيون»، أي: مونتاج المشوقات، ويعتمد على توليف سريع وبأحجام وتكوينات متباينة يستخدم المخرج من خلالها حرية المكان والزمان ليكون إيقاعه بمثابة صدمة يتلقاها المتفرج، يستطيع من خلالها توجيه أحاسيسه إلى أهمية الحدث الذي يصوره، وبالتالي تزيد في إدراكه وأفكاره والعمليات السيكولوجية الجارية في وعيه.
بعد كل هذه الدراسات والتجارب، كان لا بد لها أن تثمر بنظرية جديدة للفن السينمائي وهي نظرية «السينما العقلية» التي تبناها إيزنشتين والعديد من الفنانين الآخرين. لقد خلقت نظريته جدلاً وغموضاً في علم الجمال السينمائي. وحاول إيزنشتين إيضاحها في العديد من المقالات المتفرقة، وكانت حافلة بالاستنتاجات غير المتوقعة، فكان يحلم أن يستخدم فنه السينمائي على أن يكون بمثابة اللغة الهيروغليفية التي أعطت الأبجدية للعالم أجمع. بل أن نتجاوز حدود اللغة في بعض الأحيان، لأنها تمتلك اللامتناهيات من الوسائل التعبيرية وإمكانات تكوينية وسيمفونيات ضوئية تكون أقرب إلى الملحمة، ولا تظل محصورة في نطاق الفن بل تتعداه، لكونها تستطيع أن تُستخدم لشرح مفاهيم معينة بوضوح شامل ودقيق لا تعرفه الفنون الأخرى. فهي سجل وثائقي وطريقة للبحث العلمي ووسيلة لنشر المعارف بين مختلف الحضارات.
كان إيزنشتين يسعى لوضع حدٍّ للازدواجية بين «الإحساس والعقل» وأراد أن يعيد للعالم جانبه الحسّي ومقدرته على الأفلمة الديالكتيكية التي هي جوهر النقاشات الفكرية، دون اللجوء إلى السيناريو الكلاسيكي التكنولوجي أو إلى الممثل المُصنّع من قبل شركات الإنتاج. لهذا لجأ إلى الجماهير الفاعلة في معظم أفلامه، وتجمعات وحشود الشعب نفسه وبطبقاته كافة ليخلق انصهاراً جماهيرياً بين أفراد الشعب يستطيع من خلاله إيصال رسائله الفكرية. وحين يضطر الأمر يعوض في الممثل وخاصةً للشخصيات المعروفة تاريخياً «بالنمط»، أي: إنسان من عامة الشعب، يشبه الشخصية ويتكلم ويتحرك ويتفاعل، كما يريده هو ويكون بقيادته. وقد قام بتجسيد شخصية لينين في فلمه «أكتوبر» عامل غير معروف، لكنه يشبه لينين إلى حد كبير، يدعى «نيكاندروف». استطاع محاكاة لينين في وقفاته وحركاته وخطاباته بين الشعب في الساحات العامة، كان له مصداقية رائعة عن شخص لينين. ومع هذا واجه إيزنشتين انتقادات ومعارضة شديدة من قبل كثير من الحزبيين وغيرهم من الشخصيات الاجتماعية المرموقة عن اختياره لـ «نيكاندروف» لتجسيد شخصية القائد العظيم. وفي خِضَم تلك الانتقادات شاركت كروبسكايا «زوجة لينين ورفيقة دربه» بنقاشات حارة دارت حول الفيلم، وصرحت على صفحات جريدة «برافدا» مؤيدة وبصدق الفن الجماهيري الذي تبناه إيزنشتين وكافح من أجله، وتنبأت بإبداعات أخرى تسمو بالفن السينمائي ليكون فناً شعبياً وفناً يخص «الواقعية الاشتراكية» التي كانت تمهيداً وحجر أساسٍ للواقعية الجديدة في إيطاليا، فبعد الحرب العالمية الثانية وفجائعها وزوال الحكم الفاشي كان الوضع في إيطاليا عام 1945 شديد التشابه مع ذلك الوضع الذي كان في روسيا عام 1917، وقد نهضت إيطاليا مجدداً وحمل شعبها مسؤوليات كبرى، وكان للفن الحيّز الهام في تلك النهضة. توجه السينمائيون لعرض هموم ومشاكل الإنسان، الإنسان العامل والفلاح والبائع.. كانوا يكشفون من خلال شاشاتهم الجوع والفقر والحرمان لأولئك الذين يتعامون ويتخذون مظهر «من لا يعلم» بوجود هذا القهر المخيم على أوسع شريحة من الشعب الإيطالي. وكان من المنطق أن يتأثر بالسينما السوفييتية وأعمال مبدعيها، أمثال: فسيفولد بودوفكين- ألكسندر دوفجينكو- ليف كوليشوف- دزيفا فيركوف... وغيرهم من مؤسسي «الواقعية الاشتراكية» في الاتحاد السوفييتي، التي تأثر بها فيما بعد سينمائيو إيطاليا، فأسسوا «الواقعية الجديدة» بعد الحرب العالمية الثانية.
المدرعة بوتيومكين
بعد النجاح الباهر لفلم «المدرعة بوتيومكين» في الأوساط السينمائية عالمياً، وصفه الفنان العظيم شارلي شابلن بأنه أفضل فيلم سينمائي في العالم، كما قال بعد ذلك عن فيلمه «إيفان الرهيب» وعِبر برقية أرسلها إلى إيزنشتين بتاريخ (4 كانون الثاني 1946): إيفان الرهيب: هو أعظم فيلم تاريخي صُنع حتى الأبد. إن جوّه رائع وجماله يفوق كل شيء ظهر من قبل في السينما. يا لها من شهادة عبقري بعبقرية رفيق دربه، مع العلم أنّ شابلن هو أحد الثوريين الكبار في الفن السينمائي العالمي، رغم عدم الوجود الحرفي لكلمة الثورة في أفلامه التي تتحدث عن الجوع والفقر والحب واللاعدالة في المجتمع الرأسمالي، التي بمجملها تشكل موضوع أعمال شارلي شابلن. هذا الموضوع هو ذاته الذي جذب إيزنشتين، والتقيا عدّة مرات في هوليوود، ذلك بفترة وجود إيزنشتين في أمريكا، والجدير بالذكر أنه في إحدى المرات وفي منزل شارلي شابلن كانا يتحدثان عن الشيوعية، فسأله شابلن: هل تعتقد أن البروليتاري المثقف يمكن مقارنته من حيث المستوى العقلي بالأرستقراطي الذي تقف وراءه أجيال من الأجداد المتعلمين والمثقفين؟ فأجاب إيزنشتين: (المنحدر من عائلة مرموقة خاصة والده ميخائيلوفينش كان مهندساً وكبير معماريّي مدينة ريغا)، قائلاً: «أكاد أقارن الإمكانات العقلية للجماهير بالأرض البكر الفنية- فقط أعطوها الثقافة».
ومن الشواهد الهامة على نجاح الفيلم «المدرعة بوتيومكين» ومخرجه هو: إحساس الرجعيين بالخوف من قوة مجمل لقطات الفيلم. ففي ألمانيا أثيرت ضده دعوى قضائية بوصفه عملاً يساعد على حدوث انقلابات سياسية في العالم! وقد أعمل الرقباء مقصاتهم في الدول الرأسمالية كافة بحذف العديد من مشاهد الفيلم. وفي أمريكا حذفت مشاهد هامة وإنسانية من العمل. وعند زيارة إيزنشتين إلى الولايات المتحدة وزع أعضاء منظمة «الكوكلوكس كلان» ذات العلاقة بمنظمات صهيونية، منشورات طالبوا فيها بطرد المخرج «الأحمر» وقالوا: إنه أخطر من فرقة جنود حمر كاملة! مع هذا فإن فيلم «المدرعة بوتيومكين » قد اختارته أكادمية السينما الأمريكية لأفضل فيلم لعام 1926، وحصل في معرض الفنون في باريس على جائزة «الميدالية الذهبية الكبرى». وفي بروكسل نظمت مكتبة السينما الوطنية استبيانين عام 1954 و1958 عن خيرة أفلام الأزمنة كافة. ليتصدر فيلم «المدرعة بوتيومكين» المرتبة الأولى، متقدماً على الفيلم التالي بعشرة أصوات. وكان عدد الأفلام التي أدرجت في القائمة ثلاثين فيلماً، وعدد النقاد الذين صوتوا مائة وسبعة عشر ناقداً في أنحاء العالم كافة، اختار مائة وثمانية نقاد منهم فيلم «المدرعة بوتيومكين» كأفضل فيلم للأزمنة كافة.
وبعد أن وشح إيزنشتين بهذا النجاح الدولي استمر بأعماله التي لا تقل أهمية عن «المدرعة بوتيومكين» فأنجز فيلم «أكتوبر» وفيلم «الخط العام» و«ألكسندر نيفسكي» و«إيفان الرهيب». مؤكداً على فكرة لطالما طرحها في مقالاته وأعماله، وهي: «إن الإنتاج الفني السامي أمر لا يقدر عليه إلّا الفنان القريب من الشعب، والذي تلهمه وتحرضه قضايا وهموم شعبه، ليكون حبه لوطنه وانتماؤهِ له هو شغله الشاغل، مهما كانت مشقة وصعوبة طريقه وحياته الفنية».