مراحل تطور فلسفة التاريخ
«لا يمكن للإنسان أن يصبح شيوعياً حقيقياً واعياً، ما لم يدرس كل ما كتبه بليخانوف في الفلسفة، لأنه خير ما يوجد في مجمل نتاج الفكر الماركسي في جميع البلدان» لينين
كتب بليخانوف في نهاية القرن التاسع عشر سلسلة من الأبحاث الرامية إلى نشر الأفكار الماركسية في روسيا والقضاء على نفوذ الشعبيين. وترك لنا مؤلفات قيمة مثل: «دور الفرد في التاريخ»، «المفهوم المادي للتاريخ»، «أبحاث في تاريخ المادية». ويعتبر كتاب «فلسفة التاريخ» صورة موجزة عن مؤلف بليخانوف المسهب «تطور النظرة الواحدية إلى التاريخ»، إذ بحث فيه مراحل تطور فلسفة التاريخ، وقسمها إلى ثلاث مراحل هي: اللاهوتية، والمثالية، والماركسية.
المفهوم اللاهوتي للتاريخ
مفهوم من أكثر المفاهيم بدائية، وهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالجهود الأولى التي بذلها الفكر الإنساني لاستكشاف العالم. يرى هذا المفهوم البسيط الذي كوّنه الإنسان عن الطبيعة، أن فيها حوادث ناتجة عن فعل إرادة أو عدة إرادات شبيهة بإرادته، وهي ليست بظواهر تخضع لقوانين ثابتة. أي أنّ الحركة التاريخية تخضع لإرادة الآلهة.
درس بليخانوف أعمال المؤرخ الفرنسي غويو والقديس أوغسطين والأسقف الفرنسي بوسويه وفولتير بطريريك فرني، وصاغ المفهوم اللاهوتي للتاريخ القائم على التشاؤوم وصناعة المعجزات التاريخية والحوادث الخارقة بشكل إرادوي، وكان الرومان يلقبون أنفسهم بـ «شعب الله» ويلصقون بالإله كل الفظائع. وهكذا جرى تفسير أعمال العنف والقمع بحق الشعوب والطبقات الفقيرة.
المفهوم المثالي للتاريخ
وضع المفهوم اللاهوتي للتاريخ جانباً، وانصرف فولتير إلى الشيء التاريخي لتفسير الظواهر بأسبابها «الثانية»، أي: الطبيعة، في محاولة تعليل علمي للتاريخ. وهكذا كان «البرابرة والمجادلات الدينية» سبباً لسقوط الإمبراطورية الرومانية. أو لأن الإمبراطورية لديها عدد من الرهبان أكثر من عدد الجنود، وكتب فولتير أن المسيحية فتحت أبواب السماء، ولكنها أودت بالإمبراطورية. ولم تكن هذه المحاولة في تفسير التاريخ أكثر من استنجاد بالرأي.
أما فلاسفة القرن الثامن عشر الماديّون، مثل: هولباخ وهلفيسيوس، اللذين كانا ماديين في العلوم الطبيعية، وغرقا في المثالية حول التاريخ أسوة بجماعة الموسوعة، واعتقدا أن الرأي هو الذي يحكم العالم. وجاهدا في إثبات أن الأخلاق والجهل والرأي الخاطئ والأفكار الفطرية هي من تحرك التاريخ العالمي، ونسبا إليها كل الفظائع.
حدثت ردة فعل بعد الثورة الفرنسية التي دمرت النظام القديم وكنست بقاياه، ونسب مفكرو هذا العصر الحوادث التاريخية إلى «انتصار العقل أو هزيمته» و«المصادفة».
ركز سان سيمون على وضع أساس اجتماعي للتاريخ، وكان يطلق اسم الفيزياء الاجتماعية على علم المجتمع البشري، وقال: لا يمكننا التنبؤ بالمستقبل إلّا بعد فهم الماضي. وتتبع نضال الطبقات وحاول تصنيفها، وكان تاريخ البشرية منذ الإمبراطورية الرومانية حتى الثورة الفرنسية حسب رأيه، هو نضال وصراع اجتماعي لطبقة الصناعيين ضد طبقة النبلاء.
بينما نسب كل من أوغستين تيري ومينيه التاريخ البشري إلى الرجال العظام الذين يحركون الجماهير، وكتبوا عن نضال طبقات البشر والمصالح المتعارضة. وظهر المفهوم المثالي للتاريخ بشكل أوضح عند شيلينغ وهيغل ممثلي الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، وهكذا كان التاريخ ناتجاً عن وعي وإرادة البشر، وتحدث هيغل عن الوعي المطلق الذي يصنع التاريخ.
المفهوم الماركسي للتاريخ
يبين بليخانوف في كتابه «فلسفة التاريخ» أن الفلسفة الماركسية تنبع بصورة طبيعية من التطور السابق للعلم والفلسفة. وبعد إلقاء نظرة على المفهوم اللاهوتي في التاريخ، وتحليل بليخانوف لأفكار فلاسفة القرن الثامن عشر، ومؤرخي عهد عودة الملكية والمثاليين الألمان، ويوضح تناقضات هذه المفاهيم وحدودها التاريخية الطبقية، مع تبيان جوانبها التقدمية.
يصل بعد ذلك إلى ماركس، الذي أسند فلسفة التاريخ على أساس علمي صحيح. إذ انطلق من تفحص انتقادي لتراث الماضي النظري، ونمّى هذا التراث، وصاغ مذهباً ثورياً يعكس بأمانة قوانين تطور المجتمع.
درس ماركس أشكال اجتماع البشر وثقافاتهم من الصياد إلى الراعي إلى المزارع المستقر إلى التجاري والصناعي، وأنماط العلاقات بين الناس التي لا تحددها إراداتهم، بل تحددها حالة القوى المنتجة، فعلاقات الإنتاج هي من تحدد جميع أنواع العلاقات بين الناس، وحالة القوى المنتجة تحدد علاقات الإنتاج. وهكذا كما جاء في البيان الشيوعي: أن تاريخ أي مجتمع وجد حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية