رأس المال والمعرفة
يفصّل بيار بورديو (عالم اجتماع فرنسي) رأسمال الأفراد على الأقل إلى ثلاث خانات، رأس المال الثقافي، رأس المال الاقتصادي، ورأس المال المعرفي. حيث يعتبر أن الفرد لا يقيّم في المجتمع، ومن قبل السلطات، برأسماله الاقتصادي فقط، بل بما يمكن أن يقدمه أما في رأس المال الثقافي أي المركز الاجتماعي الموروث مثلاً، أو برأس المال المعرفي أي المستوى المعرفي والعلمي للفرد.
ويعتبر بورديو أن هذه المستويات منفصلة عن بعضها في تعاطي الأنظمة مع الشعوب وفيما يقوم به النظام لكي «يعيد انتاج» نفسه بأدواته وأساليب حكمه.
بورديو الذي حوّل ما قاله ماركس إلى تعابير جديدة، منمقة وصعبة الاستيعاب، يصر على أن لهذه المستويات انعكاساً مختلفاً في المجتمع، وأنها تعكس سلطة عند الأفراد، مثل سلطة الأستاذ على التلاميذ، هي من رأس ماله المعرفي، وسلطة مدير المدرسة على الأستاذ من رأس ماله الاقتصادي أو الثقافي. ويعتبر أن رأس المال هذا يوزع على الأفراد لكي يؤمن إعادة إنتاج النظام لنفسه، لذلك لا يمكن لمن لا يملك رأس مال اقتصادي أن يملك رأس مال معرفي، أو لمن لا يملك رأس مال ثقافي أن يملك رأس مال معرفي. مشكلة بورديو أنه فكك المصطلحات، وجعلها كثيرة جداً، وأنه في نظريته وطروحاته شبيه بنظرية المؤامرة، وكأن من يقوم بعملية إدارة توزيع رأس المال من خارج المجتمع، أو من خارج عملية إعادة انتاجه. كما أنه بفوضى مصطلحاته، تضيع بوصلة البداية والنهاية، مثلاً من أين نحصل على رأس المال هذا، وكيف نكسر عملية إعادة إنتاج السلطة هذه، التي تبدو عنده مبهمة والتي يغطيها بمصطلحات يربطها بالأفراد وليس بتمرحل التاريخ عند الشعوب؟
وما يعّرفه بورديو برأس المال المعرفي تحدث عنه بيتر دراكر في أواخر الستينات واصفاً إياه باقتصاد المعرفة، الذي سيطر على الاقتصاد الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية حسب زعمه. يقول دراكر في كتابه «عصر الانقطاع» إنه مع «الانتقال من الصناعة والزراعة إلى التكنولوجيا، أصبحت المعرفة قاعدة الاقتصاد الحديث وليس العلم). وأصبحت «المعرفة مثمّنة أكثر من العمل اليدوي أو الإنتاج اليدوي»، حيث انتقلت الدول المتطورة من اقتصاد الإنتاج (المصانع والزراعة) إلى اقتصاد المعرفة، وتسير الدول النامية في هذا الاتجاه. ويصف اقتصاد المعرفة بالانتقال من المصانع إلى الباحثين والمستشارين، وكل ما يتعلق بالتكنولوجيا والخدمات. وقد شكلت فجوة بين التطور التكنولوجي بين الولأيات المتحدة مثلاً وأوروبا هجرة لأدمغة الأخيرة إلى الولايات المتحدة حيث مصب اقتصاد المعرفة ومصدر عملهم.
اقتصاد الخدمات
بعد الحرب الأهلية اللبنانية (وغالباً قبلها)، تركز الاقتصاد اللبناني على قطاع الخدمات، الذي يتشكل من قطاع المصارف وشركات التأمين والسياحة. فصبت الجامعات الخاصة في هذا الاتجاه، وارتفع عدد المتخرجين من هذه الاختصاصات مقارنة مع اختصاصات أخرى مثل: العلوم البحتة أو الآداب. هذا الارتفاع في عدد المتخرجين أو من يمتلك «رأس المال المعرفي» تحول إلى هجرة أدمغة إلى الخليج خاصة وأغلب بلدان العالم، لكون قطاع الخدمات في لبنان محدود ليس فقط بتركيبته غير الإنتاجية، بل أيضاً بتركيبته المتخلفة عن التطور التكنولوجي في العالم، وبالفساد المرتفع في النظام السياسي اللبناني، وتركيبة النظام المعيقة لأي إنتاج وأي قطاع اقتصادي بحد ذاتها. وأدى بعد مرور أكثر من عقدين إلى ارتفاع كبير في البطالة والمعطلين عن العمل، ليس فقط في تلك المهن التي تتطلب خريجين من قطاعات «اقتصاد المعرفة» بل في المهن والقطاعات كافة. وهذا ما فتح المجال لما يسمى بمنظمات المجتمع المدني بالتشعب الكبير في لبنان، حيث عمل هذه المنظمات مرتبط باقتصاد المعرفة، والتي وجدت أرضية خصبة لتثبيت هذه الآلية من الإنتاج في عقول الشباب، خاصة الذين لا توجد أمامهم أي وسيلة أو باب للإنتاج إلا من خلال هذه المنظمات.
لبنان يشكل مثلاً مشوه بالمقارنة مع أي بلد آخر في العالم، ولكن الفروقات بين الاختصاصات أو المهن الموجودة وسوق العمل هي مشكلة تواجهها معظم بلدان العالم. ووجهت في أوروبا مثلاً بالخصخصة الجزئية للجامعات، أو في أمريكا بالأقساط أو الديون التعليمية. أما في الصين، حيث من المتوقع أنه بعد عدة سنين سيصبح الطلب على العمل المهني الخبير أعلى من الأعداد الموجودة للقيام بهذه الاعمال، وهذا من جهة بسبب الأعداد الكبيرة لخريجي الجامعات ونظام الولد الواحد، يتم مواجهة هذه المشكلة بالعودة عن نظام الولد الواحد وبإدخال تدريب مهني على التعليم الجامعي.
تحاول الرأسمالية تجميل صورتها، إن كان من خلال رأس المال المعرفي، أو اقتصاد المعرفة، أو أي مصطلح كان، يبرر الهوة التي خلقها النظام بين الإنتاج والتوزيع، وبين قيمة الإنتاج ومن ينتجه محاولة تجميل الضغط الناتج عن كل هذا. يخدم بورديو هذا المنطق حتى لو أنه كان ينكر هذا، ولكنه حتى في فوضويته ينفي إمكانية التقدم من خلال رأس المال المعرفي فقط، ويستخدم المصطلح تعبيراً عن توزيع المهام في المجتمع لكي يعود هذا التوزيع ويعيد إنتاج النظام في صيغته نفسها. أي: أن رأس المال المعرفي وُجد لكي يضع فئة معينة في خدمة إعادة إنتاج النظام بتوزيعه غير العادل تماماً، مثل اقتصاد المعرفة.