الأدب اليوم.. وكل يوم
سلاف صالح سلاف صالح

الأدب اليوم.. وكل يوم

لا زالت القضية الأساسية في الأدب هي هموم الكاتب، فهي التي تحدد وظيفة ومهمة الأدب. وبعد انعطافة هزيمة حزيران 1967 في منطقتنا، وما سببته من هزة عنيفة في المفاهيم والقيم وتشكيك بالقيم الحضارية لشعوب المنطقة وقدرتها على النهوض. إضافةً إلى السيطرة الأيديولوجية للبرجوازيات التابعة، وتشرّب المثقف والطبقات الاجتماعية المناقضة لها لمفاهيمها تغيرت اتجاهات الأدب.

عُزل الأدب عن واقعه الاجتماعي وموقفه الثوري من هذا الواقع بهدف تجريد الشعوب من سلاحها الفكري المعبَّر عنه بالقلم والموسيقى والريشة، كي تكون حركتها في الهواء المنثور بين الشكلية والانعزال والسلبية. وهنا نشير إلى الاتجاهات في الفكر والأدب اليوم بتأثير هذه العوامل:
إن الموقف السلبي والثابت من شعوب المنطقة، والذي يفترض بهم عجزهم الدائم ونقصهم الدائم عن أداء أي دور تاريخي في الحياة، يوقع الأدباء والمثقفين في شرك نظرية الأجناس التي دحضتها العلوم الأنثروبولوجية، وواقع الأمم ذاته الذي ينهض ويخبو تبعاً لظروفه التاريخية. وغالباً ما ينطلق هذا الموقف الشمولي من أسباب ذاتية تنتهي إلى تهميش وعي الإنسان للضرورة ولإرادته كأساس للتطور المجتمعي، والدفع بالظروف التاريخية للتغيير، ليقع أخيراً في القدَرية والعجز.
تمتلئ الذاتية أو الانعزالية في الأدب بصور ورؤى ميتافيزيكية وحلول تصوفية يغترب فيها الكاتب عمداً عن محيطه، ثم ينفعل ويتفاعل مع تلك الصور مؤلفاً عالماً ذاتياً تتراكم فيه الصور والرموز كمياً، لكنها لا تتحول نوعياً. وزمن دوران النص فيها ينفصل عن زمن دوران التاريخ والمجتمع البشري، وهو ينتهي في نقطة بدايته، إذ أنه بانفصاله عن الكينونة الاجتماعية، وانغلاقه في عالم الذات، لا يمكن أن يحمل سوى نظريات تجريدية وتهويمات لا تأتي بحلول تحمل تغيرات فعلية على أرض الواقع.
تشكل الرومانسية اليوم في أدبنا، والتي تنطلق من حيث انتهت الرومانسية التاريخية في أوروبا إلى مواقع المثالية المغرقة في النظرة إلى حقيقة الإنسان بما هي (ذات الفرد) فقط. وانسحاب تلك النظرة إلى رؤيتها إلى المجتمع والحياة، تشكل حركةً رجعية باعتبارها ظاهرة نكوص. بمعنى أن هذه الأشكال من الرومانسية تنشأ في المجتمعات التي تعاني عراقيل في نهوضها وتحررها، ما يعكس تغير شكل الصراع في منطقتها بين قوى ناشئة وأخرى مرتبكة ومحتضرة.
المنهج الواقعي في الأدب الملتزم
لا بد أن نشير إلى أنه لا يمكن لأحداث مريرة ودموية أن تغير أحداث الكون والتاريخ، إنّ ضخ اليأس يحمل معه العجزَ عن الخروج من دوامة هذه الأحداث، فعجلة التاريخ وإن توقفت حيناً، فإنها لن تغادر حقيقة: أن سكونها هو حالة شاذة من حركتها العائدة إلى الدوران الطبيعي من جديد. ومهمة أدبنا وفننا لا يمكن أن تحيد باتخاذ اتجاهها العاجز هذا، وهنا يأتي دور الواقعية في الأدب ذات الالتزام الفكري من حيث تمثيلها للاتجاه الثوري في الأدب.
وبناءً على ذلك، علينا تحديد بضعة نقاط تحدد الموقف من الالتزام الفكري في الأدب:
غالباً ما يتلطى العداء للأدب الملتزم أو الأدب الواقعي وراء السؤال (الفن للحياة أم للمجتمع؟)، غير أن الأدب الواقعي لا يرى فرقاً أن يكون الأدب للحياة أم للمجتمع، فالمسألة واحدة بالنسبة إليه، ومنهجه العلمي والواقعي واحد.
من المهم الإشارة إلى أن الأيديولوجية التي يستند عليها الأدب الواقعي تعارض بطبيعتها ما أُلصِق بها من مفهوم عبادة الفرد متمثلاً في المذهب الفني (الفن للفن أو الأدب للأدب والعلم للعلم)، من حيث أن الفن ظاهرة اجتماعية لا تنفصل عن الأساس المادي الذي يجمعها مع الظواهر الفلسفية والسياسية والحقوقية والدينية والعلمية الأخرى، وهو ما يجعل هذه الظواهر ـ والأدب منها، ذات تأثير متبادل بين الأساس المادي وبينها من جهة، وبين بعضها من جهة أخرى وإن اختلفت أدوات التعبير في كل منها عن مضمون ذاته. ما يؤيد فكرة الاستقلال النسبي للأدب. على أنها- أي الأيديولوجية- تعارض كذلك (عبادة المجتمع)، فهي تضع كلّاً من الأدب والفن والعلم في مكانه المنسجم مع العالم وفي موقعه الذي يجعله في خدمة الإنسان وطاقاته المادية والروحية، بل إنها تحفز هذه الطاقات وصولاً إلى أقصى درجات الإبداع، وإن كان ذلك سيبلغ في النهاية هدفه المزدوج في خير الإنسان والمجتمع ببعديهما الشخصي العام الموحد أخيراً.
المنهج الواقعي للأدب مطالب بانتماءٍ إلى قضية، واتخاذه المنهج الذي يستند إلى الواقع وحقائق حركته وتمخضها عن تناقضات جوهرية، يكتشف الأديب الأمر الجوهري فيها بطريقته الفنية المعتمدة على الرمز والإيحاء، وبشكلٍ يستطيع استنباط حلولها لتماشي التاريخ الذي في تطوره يلفظ حلقاته المفرغة وفق مبدأ الاصطفاء الطبيعي حتى في الأدب.
الواقعية تعترف بالواقع والوجود الموضوعي للعالم والمجتمع خارج (الذات) أثناء العمل الأدبي. فهي ترتبط بالحياة والمجتمع و(تطور حركتهما الكفاحية في سبيل التحرر الوطني والفكري الاجتماعي). وهي تعترف بخصوصية الأفراد وأنشطتهم بوصف كل منهم كائناً اجتماعياً يمارس حياته الاجتماعية، بما يعني ذلك: تعدد الكفاءات الشخصية وتمايزها، وتنوع الأسلوب في كل كفاءة، لكن أساسها الفني هو أساسها الاجتماعي. أي: أن العمل الأدبي يخرج من الأديب من خلال نظرته إلى الحقيقة الموضوعية والواقع الموجود بغض النظر عن وجوده هو. لكن هذه الحقيقة وهذا الواقع يفعل فعله في وجدان الأديب وانفعالاته العاطفية وتكوين موقفه من هذا الواقع، ليخرج في العمل الأدبي جديداً مستمداً جذوره من الحقيقة الكائنة بالأساس، وعلى هذا لا تتعارض الواقعية مع الرومانسية. فالأدب الواقعي ليس تعبيراً عن القضايا الوطنية، واتخاذ الأدب منبراً خطابياً لها، وإنما هو إبراز للجوانب الإيجابية أيضاً من حكايا حياتنا عن الحب والجيران والجدات والأطفال والأساطير الرمزية.. إلخ.
العلاقة نوعية بين الأدب الواقعي وحركة التحرر ببعديها الوطني والاجتماعي، فالأدب الواقعي ليس أدباً انفعالياً لحاجة للناس الذين يصنعون الأحداث وتفاصيلها ويعايشونها به لتأثره بالسطحي من الأحداث الكبرى. لكنه أدب قادر على النفاذ إلى ما وراء المظاهر السطحية وصولاً إلى جوهرها، مرتفعاً بمستوى الانفعال الحسي إلى الفكري منه ومنتجاً وفق آليات والأدوات الذاتية للأدب عملاً ليس من الواقع، لكنه منه في الجوهر، مشحون بحرارة الوجدان والفكر معاً كاشفٌ للناس عما للحدث من مطارح ومكامن غنى، وغير مكتفٍ بتفسير هذا الحدث، بل يصبح عامل تغيير له، ومن هنا يكتسب الأدب حضوره الثوري، وهو ما يكسبه الصبغة الخاصة في إطار قضية التحرر العام بصيغتها العالمية. إذ لم يكن يوماً أثراً أدبياً عالمياً خارج إطاره الخاص المرتبط بأرضه. بعكس الأدب الانفعالي الذي يقع فريسة الارتباك في تحديد موقعه متحولاً إلى شكلٍ من أشكال الرومانسية التي تغذيها الأحداث المأساوية، لعجزه عن إبصار جوانبها الأخرى، ليساوي أخيراً بين (من يقاتل للقضية ومن يقاتل القضية).
الثورية في الأدب الواقعي
إن المسألة المحورية والتي تجعل من الأدب الواقعي ثورياً، هي: موقفه من التراث الثقافي (الديني والفلسفي)، من حيث هو علاقة بين الوعي الاجتماعي والواقع الاجتماعي تتجلى فيه جميع العلاقات الاجتماعية المتشابكة الحقوقية والسياسية والفنية والفلسفية والدينية مشكلاً بنياناً متكاملاً للمجتمع، يتطابق مع نمط الحياة لهذا المجتمع ونمط علاقاته الموائمةـ والمناقضة له، في داخله، بحيث يشكل وحدة متصلة وغير منقطعة من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، بعيداً عن الأحجيات الميتافيزيكية والذاتية المثالية، التي لا تنظر إلى التراث إلا بكونه من الماضي فقط غير قادر على التحرك خطوة واحدة إلى الأمام. إن النظرة الواقعية في فهم التراث انطلاقاً من الحاضر نحو الماضي تؤدي إلى اكتشاف الأسباب الأصيلة والحقيقية لوجود الحاضر نفسه، مشكلاً فعلاً وبشكلٍ راسخ الثقافة الوطنية في الحاضر وامتدادات جذورها في الماضي على أسس التاريخ والأرض والإنسان نفسه، بعيداً عن استيراد أيديولوجيا البرجوزاية الغربية وتمكينها، والتي تهدف إلى إبعاد أجيال منطقتنا عن مشكلاتها الأساسية المرتبطة بالأصل بظروف تحررها، ومطالب تقدمها المرتبطة بضرورة تطوير ثقافتنا باتجاهها الحركي المستند إلى الجذور التاريخية الأصيلة.