تدمير قوة العمل وحدود الرأسمالية
كان الطرح حول تراجع الإمبريالية خلال السنوات الماضية(ولا زال عند البعض) يثير موجة من الهجوم تجاه من يطرحه، ولأن المعطيات الملموسة (بعد النظرية) تشير وتؤكد هذا التراجع، بات الطرح باعتراف الأغلبية ولو على مضض، وخصوصاً مَن هم أصحاب مقولة روسيا الإمبريالية (أي: كتجدد للإمبريالية في العالم وبالتالي نفي تراجعها) الذين لا حياة لمقولتهم عملياً في سياق السلوك والممارسة الروسية، وتحديداً في دعم الحلول السياسية (أي: معاداة الحروب كسلوك استعماري) والدفع تجاهها وحمايتها.
يبدو أنه في قلب الضجيج المفتعل انسحاب مريب لجوقة «نفي التراجع» من النقاش، فالقول بتراجع الإمبريالية لم يكن يعني إلا أنَّ النموذج الرأسمالي العالمي مأزوم كنمطٍ حاكم لأغلب المجتمعات البشرية ويجر معه البشرية والطبيعة إلى الأزمة، والتناقضات التي يتركها في كل مجتمع بشكل خاص تجعل هذه المجتمعات غير قادرة أولاً على: استعادة استقرارها واستكمال مواجهة التراجع الإمبريالي ونتائجه البيئية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وثانياً: غياب قدرتها على تحمل أي نموذج استغلالي- رأسمالي داخلي فيها.
تراجع واحد، إمبريالية- رأسمالية
وهكذا لا يمكن الإقرار بتراجع الإمبريالية دون تراجع النظام الرأسمالي كنمط إنتاج على الكرة الأرضية. ربما هذا ما يتم تمريره ضمن الضجيج مخافة المواجهة المتجددة مع حقيقة النظام الرأسمالي المحتضر تاريخياً، فكأنهم ينسحبون حتى لا يتطور الصراع الفكري أبعد مما هو عليه، فنصل إلى خواتيمه الغريبة للبعض، ولا يتقبلها نتيجة عقل الهزيمة أولاً، وثانياً: نتيجة أنّ مقولة الشروع بإغلاق فصل 500 عام من الرأسمالية في تاريخ البشرية تبدو غير واقعية، ولكن منذ متى الرأسمالية هي النظام الأزلي؟! إغلاق هذا الفصل الذي بدأ في مطلع القرن الماضي، وما المعركة الحالية إلّا امتداد لتلك.
من حدود الرأسمالية: قوة العمل
من ينكر النقاش أعلاه يتخلى عن الماركسية كنظرية في الاقتصاد السياسي تحديداً، ولكن من مقولات الماركسية: أن الرأسمالية تتضمن حدودها التاريخية فيها، ومن ضمن الأزمات الدورية التي تقع فيها الرأسمالية، أي: أزمات فائض الإنتاج والكساد والركود، إلّا أن هناك مستويات أخرى من هذه الحدود التاريخية تطرح قضية تعطل الرأسمالية في صلبها كنمط من الإنتاج الاجتماعي له علاقاته، ومن هذه المستويات المركزية: تجديد قوة العمل.
في كتابات ماركس عن “قوة العمل” يعتبرها منبع كل قيمة منتجة في عملية العمل، أي: أصل القيم التي يسرق منها الفائض في عملية النهب الرأسمالية. هذه القوة التي يتقاضى العامل أجراً من أجل تجديدها، أي: تجديد حياة العامل نفسه كإنسان، فقوة العمل لا توجد إلا في «لحم الإنسان ودمه» على حد تعبير ماركس.
ولكن في تفصيله لموضوع قيمة قوة العمل، فيمكن قسمتها إلى قسمين: ثابت ومتغير. الثابت، أي: قيمة البضائع تعيد إنتاج قوة العمل من الناحية الفيزيولوجية (قوة عضلية وعصبية معينة) أي: الحد الأدنى الفيزيولوجي.
والقسم المتغير من قيمة قوة العمل هو ما يسميه ماركس بالجزء «التاريخي-الأخلاقي» أو «الحد الأدنى المعيشي العادي»، وهي تتمايز حسب كل بلد ومرحلة تاريخية معينة، أي: خاضعة لشروط الصراع الطبقي نفسه، وما يمكن أن يفرضه الصراع من تنازلات طبقية وبروز حاجات جديدة إلى جانب الـ «فيزيولوجية».
فالإنسان لا يحكم حياته الجانب الفيزيولوجي وحده، فالحاجات الروحية والمعنوية للذات الإنسانية حاضرة، وجوهرها الاعتراف بها أي: التحقق في الواقع. ونسبتها مقارنة بالفيزيولوجي حكم تطور التوازن الطبقي العالمي وما التنازل التاريخي في القرن الماضي من قبل الإمبريالية إلّا توسيعٌ لهامش المعنوي- الروحي، وهكذا برزت حاجات جديدة متبلورة حاولت الرأسمالية إشباعها بوهم الليبرالية الفردية والحلم الذاتي.
تدمير قوة العمل
الماركسية، تعتبر أنَّ حدود أيّ نمطٍ معين، هي عندما تصبح علاقات الإنتاج معيقة لتطور القوى المنتجة، فكيف إذا أصبحت هذه العلاقات مدمرة للقوى المنتجة لا معيقة لها فقط. فتدمير الطبيعة والفاشية والحروب وكبح العلوم والحرب على التكنولوجيا الحديثة (الذكية) ليست إلّا تدميراً وإعاقة للقوى المنتجة. ولكن هذا المباشر يرافقه آخر غير مباشر هو تدمير قوة العمل من خلال تعطيل إمكانية إعادة إنتاجها، فتدمير الجانب المعنوي والروحي للإنسان بسبب بنية التغريب والتهميش الشامل، لا يعني فقط تعطيل قسم من بنية قوة العمل الفيزيولوجي- المعنوي إذا أردنا القول، فالمعنوي ليس قسماً مضافاً إلى حياة الإنسان الفيزيولوجية، بل هو قسم متداخل معها، ومحدد لها كذلك، كتحديد البنية الفوقية للمجتمع لبنيته التحتية. وإعاقة إنتاج هذا الجانب من قوة العمل، يعني: إعاقة إنتاج قوة العمل كلها، وما شعور الاغتراب عن العمل وعن الحياة ككل (الذات والمجتمع) وفقدان معناها والموت الروحي الواسع ليس إلّا التحقيق العملي لهذه الإعاقة، خصوصاً مع تقدم حصة العمل الذهني وتوسع دور الوعي(والحرب عليه) في المجتمع.
الإعاقة التي وصلت حد التدمير لقوة العمل ليست خاصة في مجتمع غربي أو صناعي، بل تطال كل المجتمعات التي تحكم حركتها العلاقات الرأسمالية كعلاقات سوق، وهذا التدمير يعني أنّ نمط الإنتاج الرأسمالي يلتهب في نواة وجوده، وحيث يقف كل البنيان الرأسمالي، أي: مصدر كل قيمة، ومصدر كل حياة وإنتاج إنساني.
لماذا يكون النقيض مستغرباً؟
المشهد السياسي المتحول ليس إلّا المشهد الأمامي من البناء المتعطل، والذي تعيشه الشعوب في يومياتها، مع فروقات الحرب أو الاستقرار النسبي في غير بلد، والنقيض الشامل يعني: أنّ إقرار نمط بديل من الإنتاج ضروري، نمط يعيد بناء العلاقات الاجتماعية من جديد، ويطلق قوة الانتاج ولكن في صيغتها الاشتراكية غير المغتربة، حيث قيمة الإنسان غير مهمشة، أم أنه غير مسموح لنا الكلام بالاشتراكية لدى «غير الخشبيين»؟!