جدلية الألم والرغبة
مروى صعب مروى صعب

جدلية الألم والرغبة

يدغدغ الحلم الأمريكي أحلام الكثيرين؛ شخصية تحقق نفسها في المجتمع، تمتلك ما يمكن أن تمتلكه لكي ترضي وجودها، تبرز قدراتها من خلال فردية ممارساتها، وتصبح «قائدة العالم». من المغري الشعور بالامتلاك، امتلاك الحياة والمستقبل، امتلاك القدرة على تحديد مسار حياتنا، وامتلاك الوجود من خلال ذلك. هذا الإغراء بالامتلاك تبيعه لنا الرأسمالية لكي نملأ به وقتنا الضائع، قبل الذهاب إلى العمل وبعده، في أمسياتنا التي نحاول تعبئتها بمواقف وصور وحرية “تعبير”. والتي قيّدت حياتنا بثلاثة أشياء تحكمنا، الخوف، والقلق، والرغبة. الخوف من البيئة التي تحيطنا، والقلق الذي يتسببه ذلك، والرغبة في الوجود. وشرعت لنا أبواباً من الوهم لكي نثبت أننا موجودون.



يتحدد امتلاكنا في النظام القائم بعدة أشياء، ما هو يجب أن نمتلكه، وما يمكن (أو لا يمكن) أن نمتلكه، وما يمكن العمل لامتلاكه. فما يجب امتلاكه محدد من خلال موقعنا الطبقي والجغرافي، والذي يفتح المجال لما يمكن (أو لا يمكن) أن نمتلكه من خلال هذا الموقع، وبالتالي، لكي نعمل على امتلاكه علينا تخطي هذا الموقع أو أن نُخْلق في النصف الآخر من العالم (أو الهجرة إليه). وهذا الامتلاك، المحدود بامتلاك المادة والمعرفة، يؤمن للأفراد امتلاك الوجود من خلاله، وامتلاك القدرة على تحديد مسار حياتنا. يخلق هذا الوهم في الوجود من خلال امتلاك الفردي للأشياء، لكي يعبئ فراغ التغرب في حياتنا التي خلقها النظام.
في الإعلام والحياة اليومية
لعب الإعلام دوراً كبيراً في الترويج للحلم الأمريكي، وهو يلعب دوراً في تحديد، اولاً: البيئة التي نعيش فيها وما يمكن أن نمتلكه من خلالها، وثانياً: من منا يمكنه امتلاك المعرفة والمادة. فإذا كنا في بيئة لا تسمح بالامتلاك الفردي للأشياء لا يمكننا من خلالها امتلاك القدرة على تحديد مسار حياتنا، وبالتالي، لا يمكننا امتلاك الوجود من خلالها. وكوننا، حسب هذا الزعم، كشعوب الشرق، لا نمتلك المعرفة لأن المعرفة العلمية ولدت مع الغرب الذي يمتلك الحقيقة العلمية. كما يحاول الإعلام تعريف المدخل إلى النجاح عبر تحديد الشخصيات التي تمتلك المعرفة أو القوة (اجتماعية أو سياسية). فهناك «مسلمات» للشخصية التي تمتلك الوجود والقدرة على التحكم بالحياة، من خلال الطبقية في الهرمية الاجتماعية، ومن خلال امتلاك مفاتيح قوة، كاللغة، التي هي إحدى تلك المفاتيح، فامتلاك اللغة الإنكليزية يتيح للفرد امتلاك قوة على غيره ممن لا يمتلكها ويضعه في مركز اجتماعي أعلى من غيره. هذا ما فُتح له الباب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، والأفلام والمسلسلات والروايات التي تثبت شخصية قيادية أو شخصية «السلطة».
التمايز والتماثل والقوة
معايير امتلاك المعرفة والمادة «بسيطة» حسب السائد، وغالباً متعبة ومقلقة، إلا للذين تحوّل عندهم القلق إلى اضطراب آخر. فالتمايز الشخصي/الفردي، التماثل والقوة تحدد معيار الامتلاك. التمايز أو الفردانية في أي شيء، والذي يعني امتلاك موهبة فريدة لا يمتلكها أي شخص آخر في العالم، كما تبث لنا الأفلام، خاصة تلك التي تحتوي على العديد من الأبطال الخارقين، فـ»أنت الشخص الوحيد الذي يمكنه إيقاف ما يجري» ربما تعاد في كل فيلم هوليوودي، كما «الموهبة/الشيء الذي تتمتع به لا يوجد عند أي أحد آخر». والتماثل مع السائد، أو أن «نسبح مع التيار»، فربما فرويد هو مثال شهير، حيث الأغلبية تؤكد أن فرويد «أبو علم النفس» وبالتالي هو محقٌ لا ندري لماذا ولا كيف، ولكننا ندري أنه محق، لكثرة ما ترددت الفكرة على مسمعنا، ولكثرة انبهارنا بالحق في الامتلاك المعرفي للغرب والنقص الذي يمتلكه الشرق. لكن ربما إذا اطلعنا على فرويد حظرنا أفكاره لكونها تنافي محظوراتنا الاجتماعية (مثل: الجنس والإلحاد). وعلى سبيل المثال أيضاً: التماثل والبكاء على رحيل ستيفن هوكينغ، فنحن لا ندري لماذا نبكي، إلا لأننا خسرنا «أفضل علماء الفيزياء» الذي كان مشلولاً وتابع بقدرته الفردية وامتلاكه للمعرفة، واستطاع التغلب على الموت. ما الذي أنتجه، وأين يخدم هذا العلم والعالم؟ لا نعلم أيضاً. والتماثل يجر معه الانتماء إلى القوة السائدة، فعلينا مثلاً أن ننتمي إلى قوة المعرفة العلمية للغرب والجمال والتمايز الفردي. لأننا نخاف من عدم التقيد بالنظم والمفاهيم الاجتماعية السائدة، التي تهلل للمعرفة العلمية للغرب وللجمال وللتمايز الفردي.
الهَوَس بالنساء
يشكل مسلسل «لعبة العروش»، إحدى هذه القوى التي ننتمي إليها ونود امتلاكها، سبعة ملوك يتصارعون على عرش، غير مهتمين بأية قيمة أخلاقية، ولا بالآلاف التي تموت لكي يحصلوا عليه. لم يزعج الكثيرين ممن يتبع المسلسل لحد الهوس بالنساء التي تباع، ولا بالشعوب التي تجوّع، ولا بالكراهية والتآمر والحقد الذي يبث من الحلقة الأولى إلى الأخيرة. ولا صرّح أحد من أتباع «النظام الذكوري» و»النسوية» ضد الأجساد العارية والاستغلال ومشاهد الجنس الكثيرة جداً، ضد القيم الاجتماعية التي تُشّوه. لكون التماثل مع القوة والرغبة في امتلاك الماديات (والأفراد) تسود منطق النظام السائد.
ما أقسى بعض المواقف
يقول حنا مينه في «حمامة زرقاء في السحب»: «ما أقسى بعض المواقف، سنة؟ ربما أكثر، مستعد كل منا أن يدفع من عمره ليتجنب موقفاً مماثلاً. لكن تبادل المواقف والسنوات لا يتم بسهولة. علينا أن ندفع ألماً. وأن نتعلم، كل يوم، كيف نتألم أكثر، ونتحمل أكثر». يريد الإعلام صنع شخصيات بطولية خارقة للطبيعة تستطيع عمل ما يحلو لها لكونها تتمتع بالقوة التي صنعها النظام لها، ويريد منا أن نتماثل مع هذه الشخصيات، من خلال وهمٍ خلف الشاشة. ونريد لنفسنا الانصياع نحو هذه الشخصيات من دون مسائلة، ومن دون أن نتعلم الألم والتحمل. ألمَ التبعية التي تنافي القيم الاجتماعية الظاهرة، وتتأبط عباءة المخفي في هذه القيم من خوف وقلق ورغبة.