نوال السعداوي: لا شرف لوطن تُهان فيه الأمهات
إنسانة. جريئة. قوية. مناضلة. مشاكسة. امرأة. لكنها ليست ككل النساء. ناشطة فاعلة في مجال قضايا عدة: حقوق المرأة. العدالة الاجتماعية. الحرية، حرية الفرد والمجتمع. فصل الدين عن الدولة. التعليم… ودفاعها هذا ليس عبارة عن مجموعة مقالات كتبتها، أو أيام عاشتها في السجن، أو مقابلات تلفزيونية وإذاعية أجريت معها. مواقفها هي حياتها، هي كل ما عاشته، ما كتبته في مؤلفاتها وما علّمته في صفوفها. إضافة إلى إقرار قوانين سعت جاهدة لإرغام السلطة على إقرارها، ليس آخرها حق الطفل في أن يحمل اسم والدته. صمد صوتها رغم صخب الأصوات التكفيرية والقامعة حولها. واللائحة تطول.
“لا أستطيع أن أطيع” تلك هي د. نوال السعداوي، التي التقيناها أثناء وجودها في معرض بيروت الدولي للكتاب. وكان لنا معها هذا الحوار:
1 ـ في لقائك الأخير في معرض بيروت الدولي للكتاب، اتهمت الأحزاب العلمانية في العالم العربي بأنها نخبوية، مشيرة إلى أن القهر الطبقي مرتبط بالقهر الجنسي. وقلت: يجب أن نتخلص من الطبقية. كيف السبيل إلى ذلك برأيك؟
} نعم، لا يمكن فصل القهر الطبقي الاقتصادي عن القهر الجنسي الجسدي والروحي. يجب التخلّص منهما معاً في وقت واحد، عن طريق رفع الوعي والتربية والتعليم والتنظيم السياسي الجماعي الواعي الذي يوحّد ولا يفرّق.
2 ـ نوال السعداوي امرأة مثيرة للتفكير والجدل. لماذا تلاحقك التهم بصفة متواصلة، ومنهم من يتهمك ويصدر حكمه من دون معرفة شخصيّة بك؟
} تلاحقني التهم والشائعات الكاذبة بسبب خطورة ما أكتبه وأكشفه من فساد الأنظمة والأفراد وازدواجية المعايير، وعقاب الضحيّة وإطلاق سراح الجاني لأنه الأقوى.
3 ـ واجهتِ مصاعب كثيرة ومخاطر عديدة، وخسرت وظائف حكوميّة، كما مُنع بعض كتبك من النشر… وكان ذلك بسبب مواقفك من القضايا الدينية كالحج، الحجاب، الميراث… أو دفاعاً عن حقوق المرأة. وتم سجنك. لكنك رقصت وكتبت حتى في السجن. بعد هذه المسيرة الطويلة من النضال والحب والعمل، أي المواقف كانت الأصعب بالنسبة إليك؟
} أصعب المواقف في حياتي، حين أشهد الاضطهاد الذي يقع على أسرتي، خاصة ابنتي الكاتبة والشاعرة المبدعة التي طردوها من كل مناصبها رغم حصولها على الدكتوراه في علوم البيئة وحصولها على جوائز أدبيّة وجائزة الشعر من اتحاد الكتاب في مصر.
4 ـ من الصعب حصر نوال السعداوي الفرد ـ الجمع في تعريف. أنت: كاتبة، روائية، مناضلة، طبيبة، أمّ… وقلتِ في إحدى المقابلات إنك تحبين أن تكوني راقصة أو شاعرة… أين تجدين نفسك؟
} أجد نفسي في كياني كلّه. لا أفصل بين الكاتب والطبيبة والروائية والثائرة ضد التقاليد والداعية للثورة، والتي تحب الفن والعلم والرقص والموسيقى وكل ما في الحياة.
5 ـ هل شكّل الألم الذي عانيت منه بسبب التفرقة بينك وبين شقيقك في المنزل، وبالتالي بينك وبين “ابنة المأمور” في المدرسة، دافعاً أساسياً للدخول في صراع الدفاع عن قضايا المرأة والبحث في مسألة الذكورة والأنوثة.. ومنها إلى الصراع الطبقي، الاقتصادي السياسي؟
} نعم، دفعني إلى الكتابة الإحساس بالظلم الطبقي الأبوي الديني في حياتي وفي حياة الآخرين.
6 ـ اروي لنا أبرز ما تتذكرينه عن مشاركتك لشباب الثورة في ميدان التحرير.
} شاركت في الثورة المصرية في ميدان التحرير وغيره من الشوارع. كما شاركت في تظاهرات في بلاد مختلفة غرباً وشرقاً. كنت أحلم بالثورة منذ الطفولة. وقد لعبت كتبي (52 كتاباً حتى الآن) دوراً في رفع الوعي الثوري والتمرّد لدى الشباب والشابات. في ثورة يناير في مصر، “نزلت ميدان التحرير، وعشت مع الشبان والشابات في الخيام، وفي إحدى المرات كانت الدنيا برداً شديداً في كانون الثاني وشباط، كنت لا أستطيع النوم على الإسفلت من شدة البرد. كنت أضطر للعودة إلى بيتي، أحياناً الساعة الثانية فجراً، وكان الشباب بيوصلوني البيت على الموتوسيكل، ما كانش في مواصلات. تصوّري بأى كنت بروح من ميدان التحرير إلى شبرا فوق الموتوسيكل”. عشت الثورة بكل لحظاتها الجميلة والمؤلمة والمفرحة.
ضد المعونة الأميركية
7 ـ حدّدت في أكثر من مقابلة موقفك من المعونة الأميركية لمصر بعد ثورة الشعب المصري ضد مبارك. قبلت مصر المعونة الأميركية. وتعتبرين أنها فقدت استقلالها بسبب هذه المعونة، وخضعت لإسرائيل. وبالتالي فإن هذا السلام ”مزيّف” كما تصفينه، وأن مصر استُعمِرَت اقتصادياً. كذلك اعتبرت أن الانتخابات المصرية هي لعبة أميركية بهدف تقسيم الشعب المصري…
} بالطبع، أنا ضد المعونة الأميركية منذ حكم السادات. وضد أن تعيش دولة محترمة على المعونات الأجنبية. مثل أنني ضد أن تعيش المرأة عالة على غيرها. الانتخابات هي جزء من الديموقراطية المزيّفة في العالم، فهي تقوم على الأموال ومن يملك الإعلام والنفوذ.
8 ـ ما هي وجهة نظرك في التعديلات الدستورية الحالية؟ وهل ستحدث تغييراً في المجتمع المصري؟
} كتبت أكثر من مقال في مصر عن مشروع الدستور المصري 2013. وكشفت فيها عن التناقض فيه والمراوغة، خاصة المادة 2 التي تكرّس الدولة الدينية في مصر. والمواد الأخرى التي تؤكد مدنية الدولة، والتناقض بين قانون الأسرة الديني وقوانين الدولة المدنية. وقد تمت التضحية بحقوق النساء والأطفال تملّقاً للحزب السلفي الإسلامي، رغم أن المرأة المصرية شاركت في الثورة ودفعت من دمها ودم أولادها، لم تأخذ إلا القهر والاستغلال.
9 ـ نزلت المرأة إلى الميدان وشاركت في الثورة رافعة شعارات: الحرية، العدالة، الكرامة. بعد هذه الثورات، هل استطاعت المرأة، رغم مشاركتها، أن تحقق لنفسها هذه الأهداف؟ وكيف توصّفين وضع المرأة العربية اليوم؟
} كلا، مع الأسف، لم تستطع. إن الثورات في بلادنا أجهضت بسبب التعاون الأميركي الإسرائيلي الأوروبي مع الحكومات المحليّة، ونتج من ذلك التراجع في حقوق النساء والفقراء.
10 ـ أصبحت الديموقراطية “سيئة السمعة” كالعذريّة وقضايا أخرى. برأيك لماذا تمّ تشويه هذه المفاهيم؟ وما هو تقييمك للديموقراطية في مصر؟
} مصر هي جزء من العالم الرأسمالي الأبوي الديني. وبالتالي لا يمكن أن تكون هناك ديموقراطية حقيقية في ظل هذا العالم. لا ديموقراطية في أميركا أو مصر أو أي بلد آخر ما دامت الأغلبية الساحقة فقراء والقلة تملك كل شيء، ماديا وروحيا أيضاً. فالرجال الأثرياء يملكون الأديان والآلهة والشرف والفلوس.
11 ـ إذا أردت أن تضعي خطة للسير بها من أجل تحرير المرأة والمجتمع. برأيك ما هي النقطة التي يجب الانطلاق منها؟ وما هي أبرز المراحل التالية؟
} الانطلاق يكون من البيت. من الأسرة. الأسرة هي أساس الدولة والمجتمع. يجب علينا أن نكافح معاً من أجل قانون مدني واحد للأصول الشخصية، يسري على الجميع، دون تفرقة على أساس الدين أو الطائفة أو المذهب. هذه هي الخطوة الأولى للقضاء على الفتن الطائفية وإرساء الحكم المدني في الدولة والعائلة. لنخلق أسرة جديدة قائمة على المساواة بين الأب والأم والأطفال. فالبيت هو الذي يربي العنف والتطرّف والازدواجية والفساد. لذلك لا بدّ من أن نغيّر قانون البيت وقانون الزواج، وقوانين التعليم وفلسفة التعليم والثقافة كلها. لنحدث ثورة في العقل وفي الثقافة وفي البيوت، ليكون هناك قانون واحد للأحوال الشخصية لجميع الطوائف والأديان. لأن هذا يوحّد الشعب. من هنا نبدأ وليس من البرلمان والرئيس. التغيير لن يأتي من الرئيس بل من التعليم والثقافة وبناء العقل.
12 ـ بطلة روايتك “زينة” هي طفلة حقيقيّة، من الشارع، لم تتمكن من الحصول على وثيقة ولادة، لأنها مجهولة الأب. وقد قمت بحملة مع ابنتك منى حلمي، من أجل المطالبة بإصدار قانون يمكّن هؤلاء الأطفال من أن يحملوا اسم الأم. أين أصبح هذا المشروع؟ وما هي المشاكل التي تواجهونها؟ برأيك هل مجتمعاتنا العربية على هذا القدر من الوعي لتقبّله؟
} إن الازدواجية الأخلاقية والقانونيّة، يفرضها النظام الرأسمالي الأبوي الديني في جميع بلاد العالم شرقاً وغرباً. منذ نشوء النظام العبودي الطبقي الأبوي في التاريخ. تغيّر النظام الحاكم ومعه تغيّرت الأديان. فالدين يخدم السياسة والحكم ويتبعها وليس العكس. كان في مصر القديمة آلهات إناث “إزيس” و”معات” و”سخمت” وغيرها. وقد اختفين في التاريخ بانتصار الإله الذكر واحتكاره السلطة والدين والشرف. أصبح اسم الأب هو الشرف وحده واسم الأم أصبح عاراً بعد أن كان الشرف.
كان الأطفال يحملون اسم الأم في الحضارات الإنسانية القديمة أي قبل نشوء النظام الأبوي. ثم تغيّر النظام والقانون. وأصبح الأطفال يحملون اسم الأب، واختفى اسم الأم من التاريخ.
في مصر، مع بداية القرن 21، بدأت ابنتي منى حلمي الكاتبة والشاعرة حملة أدبيّة فكريّة أخلاقيّة من أجل إعطاء الشرف للأم وأن يحمل جميع الأطفال اسم الأم والأب معاً، وليس الأب وحده. وكان قد وصل عدد الأطفال غير الشرعيين إلى ثلاثة ملايين طفل يعيشون في الشوارع. فالرجل المصري له حرية جنسية واسعة خارج إطار الزواج دون تحمّل أدنى مسؤولية تجاه الطفل البريء المولود، الذي كان يدفع ثمن جريمة الأب. فيُحرم من استخراج شهادة ميلاد لأن الأب لا يعترف به، ويُحرم بالتالي من التعليم وكل ما يحق للطفل الشرعي.
بدأت منى حلمي توقّع كتاباتها المنشورة باسم الأم والأب معاً. وتبعها عدد من الشباب والشابات وأعلنوا ذلك. فانزعج النظام الحاكم وتمّ رفع قضية حسبة ضد منى حلمي بتهمة ازدراء الأديان. لكن بعض الشخصيات المتقدمة النبيلة ساندت القضية، منهم المرحوم جمال البنا (ابن حسن البنا مؤسس الإخوان). وكان ناقداً لجماعة الإخوان. وتكلم جمال البنا في التلفزيون مؤيّداً حق الأم في الشرف.
نجحت الحملة في إبراز قضية الأطفال غير الشرعيين أيضاً. وتلى ذلك تغيير قانون الطفل في مصر في مايو 2008 وأصبح من حق الطفل أن يحمل اسم الأم ويكون شرعياً ويحصل على شهادة ميلاد ويدخل المدرسة. إن شرف الأم من شرف الوطن. ولا شرف لوطن تهان فيه الأمهات.
13 ـ من هم أبطال روايتك الأخيرة “إنه الدم”؟
} أبطال روايتي “إنه الدم” هم كاتبات وكتاب من الطبقة الوسطى. وهم أيضاً خادمات وعاملات كادحات يتعرّضن للقهر من أكثر الرجال تقدّماً وثورية.
14 ـ كتبت “إن الحرب هي أكبر الجرائم في العالم، وهي دائماً من أجل الأرض أو المال أو البترول، أي “الاقتصاد”؛ لكنها تتستر دائماً تحت أردية دينية أو أخلاقية أو إنسانية. ويلعب “الإعلام” الحديث الدور الأكبر لتغطية الحقائق المادية بستائر من الروحانيات”. كيف تقيّمين دور الإعلام العربي اليوم في ما يتعلّق بالحروب والصراعات الدائرة في أكثر من بلد عربي، خاصة مع بروز دور مواقع التواصل الاجتماعي القوي والذي يتهمه البعض بأنه غير منضبط؟
} نعم، الحروب العسكرية الاقتصادية في التاريخ تتغطى دائماً، حتى اليوم بقشور دينيّة روحانيّة مزيّفة، إخفاءً للمطامع الماديّة الصرفة.
بالنسبة لمواقع التواصل الاجتماعي، أرى أنها مهمة ومفيدة إذا احتوى مضمونها على الأفكار التحريريّة الإنسانيّة وكشف الفساد السياسي والديني والأخلاقي.
15 ـ ما هو دور المثقفين ومؤسّسات المجتمع المدني واتحاد الكتاب… من كل ما يجري على الساحة اليوم؟
} دور اتحادات الكتاب والمثقفين والمثقفات (غير المنافقين للسلطة الحاكمة والأموال) مهم جداً في إنجاح الثورة والتحرّر والاستقلال.
16 ـ ما هي قضية نوال السعداوي؟
} قضيّتي هي قضيّة كل إنسان وكل إنسانة تكره الظلم والكذب والقيود وتحبّ العدل والصدق والحرية.
17 ـ كل القضايا التي طرحتها نوال السعداوي: الجنس، المرأة، التديّن، العلمانيّة، الطبقيّة… قلتِ إنها “لا تحتاج إلى ثورة بل إلى ثورات”. هل تجدين أنّ هناك مَن سيقوم بهذه الثورات لتحقيق هذه المطالب؟
} طبعاً، أنا أكيدة أنّ هناك الكثير من الأجيال، الأجيال الجديدة هي التي ستقوم بهذه الثورات.
18 ـ هل ترين أنّ هناك “نوال سعداوي” أخرى في العالم العربي؟ لماذا؟
} هناك الملايين من “نوال السعداوي”، من الشابات والبنات والأطفال والرجال، الذين قابلتهم في أكثر من بلد عربي، يقولون لي أنت تتكلّمين باسمنا وترفعين قضايانا ومطالبنا.
المصدر: السفير