ثمن  السُّكر الذي تأكلون

ثمن السُّكر الذي تأكلون

هرب كنديد من محاكم التفتيش في أوروبا إلى براغواي في أمريكا اللاتينية، هناك يملك رجال الدين كل شيء، والشعب لا يملك شيئاً. ويأتي إلى مستعمرة هولندية، ويجد عبداً زنجياً بيد واحدة، ورجل واحدة، وقطعة من قماش تستر عورته، فشكى له العبد: عندما نشتغل في قصب السُّكر ويعلق أصبع من أصابعنا في طاحونة القصب يقطعون يدنا، وعندما نحاول الهرب يقطعون رجلنا. هذا هو الثمن الذي تأكلون به السُّكر في أوروبا.

(1)
لا نجد كاتباً يناقش التشاؤم بسرور مثل فولتير في روايته كنديد، مع علمه أن هذا العالم عذاب وألم. ومن النادر أن نجد رواية بمثل هذا الفن البسيط الممتع. لقد كتبها في ثلاثة أيام عام 1756 وكانت ريشة الكتابة تجري وتضحك بين أصابعه. وقد قال أناتولي فرانس: قد تكون أجمل رواية في الأدب كله. لماذا كتب فولتير هذه الرواية؟ جاءت الأخبار في شهر نوفمبر من عام 1755 عن وقوع زلزال مرعب في لشبونة ذهب ضحيته ثلاثون ألفاً من السكان. لقد وقع هذا الزلزال في يوم القديسين، وامتلأت الكنائس بالمصلين. لقد تأثر فولتير تأثراً بالغاً، واحتدم غضباً عندما سمع أن رجال الدين الفرنسيين اعتبروا هذه الكارثة التي نزلت بالبلاد والعباد عقاباً لهم على خطاياهم وذنوبهم. وانفجر فولتير، ونظم شعراً مؤثراً عبَّر فيه تعبيراً عنيفاً عن هذه المعضلة القديمة، قال فيه: علَّمني تقدم العمر أن أُشارك الناس انكسارهم، وأبحث معهم عن كوة ضوء وسط الظلام الدامس.
لقد ردَّ جان جاك روسو على قصيدة فولتير عن لشبونة، ووضع اللوم في هذه الكارثة على الناس، بقوله، لو عشنا في الحقول خارج المدن ولم نعش في المدن، لما بلغت الخسارة في القتلى هذا الحد، ولو كنا نعيش تحت السماء، لا في البيوت، لما سقطت البيوت علينا. لقد أثارت الشعبية التي حظي به مقال روسو الدهشة في فولتير، فأدار على روسو سلاح السخرية، وألَّف رواية كنديد.
(2)
كنديد شاب بسيط وأمين وهو ابن بارون عظيم وتلميذ العالم بانجلوس. كان بانجلوس استاذاً في الميتافيزيقيا واللاهوت والكون، وقد قال: إن من الممكن إثبات أن كل شيء في هذا العالم وجد من أجل أفضل غاية. لاحظ أن الأنف قد شُكّل ليحمل النظارة، والسيقان قد وضعت بشكل واضح من أجل الجوارب، والحجارة لبناء القصور، والخراف لنأكل لحمها طيلة السنة. بينما كان الأستاذ بانجلوس يتحدث وكنديد التلميذ يستمع، هجم جنود الجيش والقوا القبض على كنديد وجعلوا منه جندياً. وعلّموه كيف يدور يميناً ويساراً، ويسحب البندقية ويُعيدها إلى مكانها، ويستعد ويسحب المغلاق ويطلق النار، ثمَّ يسير وكأن شيئاً لم يكن، هيا وراء دُرْ أمام سر. وعزم في يوم مشمس من أيام الربيع على التريض والمشي بحرية، فانطلق ماشياً إلى الأمام معتقداً أن من حق الإنسان والحيوان أيضاً استعمال أرجله كما يحب، لقد تقدم خطوتين فقط، فأدركه جنود الشرطة العسكرية، وألقوا القبض على سيادته، ثمَّ أوثقوه وحملوه إلى السجن معززاً مكرماً. وهناك خيروه بين أن يجلده كل جندي في الفرقة ستاً وثلاثين جلدة، أو يتلقى مرة واحدة رصاصتين في رأسه، وحاول كنديد عبثاً أن يقنعهم بحرية الإرادة، وأنه لا يريد أن يختار لا هذا ولا ذاك، وأجبر على الاختيار، وعزم بموجب هبة الله التي تُسمى الحرية، أن يتلقى من الجلد ستاً وثلاثين جلدة من كل جندي في الفرقة لأنها أضمن للحياة من رصاصتين في الرأس.
(3)
هرب كنديد من الجندية، وتقابل مع الأستاذ بانجلوس على السفينة المتجهة إلى أمريكا الذي حدثه عن قتل البارون والبارونة في لشبونة وتدمير القصر الملكي، وأنهى حديثه بقوله: كل هذا لا مفر منه، لأن مصائب قوم عند قوم فوائد، وكلَّما زادت مصائب البعض كان ذلك لمنفعة البعض الآخر. في هروبه إلى أمريكا اللاتينية، دخل إلى غابات براغواي حيث وجد الكثير من الذهب، ثم عاد إلى الساحل واستأجر سفينة لتأخذه إلى فرنسا، ولكن ربان السفينة أبحر بالذهب، وترك كنديد يتفلسف على شاطئ المرفأ. اشترى كنديد بالقليل الذي تبقى معه تذكرة على سفينة متجهة إلى بوردو الفرنسية، وبدأ حديثه مع عالم مسن، يُدعى مارتين.
-هل تعتقد أن الناس كانوا يذبحون بعضهم بعضاً دائما كما يفعلون اليوم، وبأنهم كانوا دائماً كذبة، مخادعين، خونة، ماكرين مخادعين، قاطعي طرق، حمقى، لصوصاً، سفلة، سفاكي دماء، فاسقين، متعصبين، منافقين ومجانين؟ فأجابه مارتين:
-هل تعتقد أن الصقور كانت تفترس الحمام دائماً حيث وجدته؟ بلا شك، قال كنديد. فأجاب مارتين:
-إذا كانت الصقور لم تغير من طباعها، لماذا تتصور أن الناس قد غيروا طباعهم؟ آه... قال كنديد، هناك فرق كبير شاسع لحرية الإرادة. وهنا وصلت السفينة إلى بوردو. وبعد أن تعرض كنديد لضروب مختلفة من الشرور على أيدي رجال كثيرين سكن أخيراً في بلاد الأناضول، واشتغل مزارعاً. وتنتهي الرواية بحوار بين الأستاذ والتلميذ. كان بانجلوس يوجه خطابه الأخير إلى كنديد: يوجد ارتباط بين الحوادث في هذا العالم الذي هو أفضل العوالم، لأنك لو لم تُطرد من القصر العظيم، ولو لم تُطاردك محاكم التفتيش، ولو لم تذهب إلى أمريكا، ولو لم تفقد كل ذهبك، لما كُنت هُنا تأكل هذا النارنج المحفوظ مع الفستق الحلبي. كل هذا حسن، قال كنديد، ولكن دعنا نزرع حديقتنا...ونحن أهل سورية متى نزرع حديقتنا؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
837