"الماضي" للإيراني أصغر فرهادي.. نذير بخراب شخصي
يُعَدّ المخرج الإيراني أصغر فرهادي ظاهرة سينمائية فريدة. يمتاز بقوّة دُرْبَته في الحكي السينمائي، وبامتلاكه حسّاً نادراً في اختيار شخصياته الشديدة الواقعية. لا رتوش في صنعته. لا خطب سياسية وعظية، ولا إيديولوجيات منفوخة أو مضخّمة، بل سيرورات عائلية مفعمة بالشرط الإنساني. بشر يكافحون من أجل توكيد ذواتهم ضمن عالم سريع ووحشي وغير متوازن. يقف على خلاف مواطنيه الذائعي الصيت عباس كياروستامي، المعلم الكبير المهتمّ بالعبء العائلي في إيران المعاصرة، والمنغمر في فيلمين أخيرين له هما "نسخة طبق الأصل"(2010) و"مثل امرئ عاشق" (2012) بالهمّ البشري المحاصر بالوحدة وسوء الفهم. وجعفر بناهي الخبير بالمفارقات الشخصية التي تقود أبطاله إلى محن وعقوبات ومواجهات غير متكافئة.
يرى فرهادي، النصير الذي لا يُقارَع لقضية المرأة في بلده، أن الظلم الواقع عليها غير سوي من مجتمع يعاني حكماً مسبقاً يعتبرها عورة، لا تستوجب إقرار حقوقها المدنية بيسر. هكذا تكون بطلة عمله "ألعاب يوم الأربعاء النارية" (2006): تعمل مدبّرة منزل عائلة غنية، فتجد نفسها في ورطة عبودية غير مسبوقة، إذ تفرض عليها الزوجة ـ التي تشكّ بإخلاص زوجها ـ مهمة مطاردة العشيقة. كيان الشابة وعفّتها الشخصية يُنتهكان بجور كبير. أما نظيرتها في "عن إيلي" (2009)، فتواجه شكوك الجميع من حولها بالتورّط في اختفاء شابة زائرة، وتصبح قيمها ونصاعتها ملوّثة إلى الأبد. في "انفصال نادر وسيمين" ("أوسكار" افضل فيلم أجنبي، 2011)، تتحوّل الأخيرة إلى وصمة عار عائلية، يتسبّب إصرارها على الطلاق بحجّة الهجرة إلى كندا بقبولها خسارات متوالية لإنصافها اجتماعياً، قبل أن يواجه الجميع تعقيدات مأسوية تعمّق فجوة العواطف، وتعلن عن تفكّك نهائي للأسرة الصغيرة. إنها الثيمة الدرامية نفسها في جديده "الماضي"، الذي صوّره في باريس. فطلب ماري بريسون (بيرنيس بيجو، جائزة التمثيل في مهرجان "كانّ" السينمائي 2013) من زوجها الإيراني السابق أحمد (علي مُصفا) العودة إلى فرنسا لإستكمال إجراءات طلاقهما التي طال أمدها، وتراكمت مشاكل عويصة حولها، أشعلت ـ من دون أن تدري ـ ناراً في حاضرها عبر دعوتها ماضياً لم يغفر لها زلاتها، اختزل فرهادي مفارقاتها في مشهدي "اللا تفاهم" بين الطليقين عبر الحاجز الزجاجي لمبنى المطار، ولاحقاً في ارتباك المرأة في قيادة سيارتها تحت المطر الغزير. يتفاجأ الإيراني بوجود عشيقها الشاب سمير (طاهر رحيم) ونجله، كما يُصدم بالعلاقة المتوترة بينها وبين ابنتها المراهقة من زيجتها السابقة لوسي.
صاغ فرهادي (أصفهان، 1972) هذا الاستدعاء كنذير سينمائي لخراب شخصي يحطّ من عزوم كائن أعزل، على قدر كبير من نكران الذات، كونه لم يُحسن تخطيط حياته أو الإمساك بزمام عائلته وأواصرها. تتحوّل ماري إلى غصّة وجدانية عبر فشلها في بناء علاقة سويّة مع ابنتها. دعوتها أحمد الى دارتها ـ الواقعة في ضواحي العاصمة الكبيرة ـ لعنة جديدة تتسبّب في هدم ما تبقى من ذمّة أسرية تقف على حافة عنف مستتر. هل هي مخطئة دائماً كما ترى ابنتها، أم أن ماضيها الشخصي ناقصٌ وعليلٌ؟ تُرى، أيّ من الرجلين أفضل لحلّ معضلة ابنة منتهكة العواطف، وقليلة الصبر، وضحية ماضي قِرَان فاشل؟
نصّ "الماضي" ـ المعروض في خانة "سينما العالم" في الدورة العاشرة (6 ـ 14 كانون الأول 2013) لـ"مهرجان دبي السينمائي الدولي" ـ هو البطل الرئيس. مكتوب بروية وإحكام دراميين، يجعل مشاهدته واجباً جماعياً لتطهير القلوب والأنفس. مباشر. صريح. على قدر هائل من البساطة. لكنه مفعم بالتفاصيل وفيوض الحنوّ. يراتب عواطف شخصياته المستلة من الواقع بحنكة معلّم سينما، يسعى إلى مشاركتنا فكرة نبيلة تقول إن "العِشرة لا تهون إلا على ساقطي الضمائر".
المصدر: السفير