عمرو سواح عمرو سواح

إحراق الأوراق الثقافية عشرة على عشرة في مواضيع التعبير الأدبي

كنا في المدرسة الابتدائية ونحن صغار نكتب في حصة اللغة العربية ما يسمى بمواضيع التعبير، وكانت هذه المواضيع، تتحدث إما عن الأم أو الأب، أو عيد الجلاء، فصل الربيع، الخريف، الشتاء، أو العودة إلى المدرسة، وغالباً، ما كانت من نوع(( أحبك يا أمي.. فأنت جميلة جداً، وثوبك الأخضر، رائع، عيونك سماء صافية، وقلبك دافئ، يا أمي الحبيبة أريد أن أغني لك، أغنيتي المفضلة (ماما.. ماما يا أنغاما) أحبك يا أمي أحبك.)) ويستمر الطفل بسرد مناقب ومحاسن أمه الخفية، وقدرتها الخارقة على العمل، ويثني داخل الموضوع على أبيه الكادح الذي يعمل صباح مساء ويحبه أيضاً. وإن كان موضوع التعبير يتحدث على الربيع، فكان يجب أن يكون الطريق في الربيع أخضر … أخضر، والشمس صفراء أو ذهبية في الصباح، وبرتقالية قبل أن تغيب، والغنم يسرح في المراعي، والحمام يطير. وكل من يكتب هذه المواضيع، كان ينال عشرة من عشرة، وتكتب الآنسة على دفتره.. أحسنت يا شاطر .. ثابر إلى الأمام، ثم يقف الصف ويصفق لهذا الفتى النابغة  صفقة طلائعية.

بينما كنت أنا ومجموعة من أصدقائي نعتبر من الأطفال الكسالى خاصة في مواضيع التعبير الأدبي، لأن الشمس في ما نكتبه لم تكن تشرق في الربيع، والعشب كان لونه أصفر، والسماء بنفسجية، والحمام كان يخرج من مدخنة منزل جارنا أبو عبده وليس من الأشجار وارفة الظلال أما الرعاة وأغنامهم فلا يسرحون في المراعي الخضراء، بل بالقرب من حاوية منزلي.. عندما قرأت أول موضوع تعبير لي أمام أصدقائي في الصف، امتقع وجه آنسة العربي، ونظرت إلي بغضب شديد، وطلبت مني أن أقف وأرفع يدي وقدمي أمام المدفأة -المطفأة طبعاً-، ووضعت لي علامة الصفر على موضوع التعبير الذي كتبته، واتصلت بأهلي وقالت لهم هل من المعقول أن يرى ابنكم أن السماء بنفسجية أظن أنكم بحاجة لأن تراجعوا طبيب عيون، إلاّ أن أبي أعجب بالموضوع الذي كتبته وكافأني عليه وبدأت بالكتابة منذ ذلك الوقت، وقال لي ألاّ أقول أنه فعل ذلك لآنسة العربي.

لم نكتب أنا أو أي من أصدقائي الكسالى في مرة من المرات أي موضوع كما تريد آنسة العربي، فالطلاب الشطار يكرهون الصيف واللعب ويحبون المدرسة، أما أنا وأصدقائي فنحب الصيف واللعب ونكره المدرسة، الطلاب الشطار يرون أن الثلج يسقط كل عام في مواضيع تعبيرهم، أما أنا وأصدقائي الكسالى فكانت مخيلتنا ترسم غباراً أسود يهطل في الشتاء.

وفي المرحلة الثانوية بدأنا بما يسمى بمواضيع التعبير الأدبي والتي كانت تتحدث عن طرفة بن العبد، وقيس بن الملوح، وامرىء القيس، وكانت المواضيع على الشكل التالي، كان امرؤ القيس يحب الصحراء، فيذكر الطلاب النجباء، بيتي شعر حول هذا الموضوع، وكان عنترة مقاتلاً مغواراً وما أكثر الأبيات حول ذلك، وأن فلاناً من الشعراء أحب فلانة، فيذكرون بيتين آخرين حول حب فلان لفلانة، وكان كل من يلتزم بكل ما كتب بكتب التاريخ والشروحات الشعرية ينال أعلى العلامات، أما أنا وأصدقائي الكسالى فكنا نقرأ، كتباً أخرى نستلها من مكتبات أهلنا، فوجدنا أن حب قيس لليلى ليس حباً صافياً 100% بل كانت وراء ذلك غايات، ,وأن عنترة كانت لديه عقد نقص، وشطبنا على كل الشروحات القديمة التي تملأ الكتب وأردنا أن نخرج بشروحاتنا لتلك القصائد، أحببنا الصعاليك، بينما كانت آنسة العربي تحب الشعراء الملتزمين، حاولنا أن ننظر إليهم بصورة مختلفة فنلت أنا شخصياً طرد ثلاثة أيام من المدرسة مع استدعاء لولي الأمر.

كلما كنت أنا أو أي من أصدقائي نحاول أن نحرر مخيلاتنا من تلك الأطر كنا ننال علقة ساخنة، أما الذين التزموا بحرفية الكتاب، وقيدوا مخيلاتهم، فقد نالوا أعلى المراتب ولا يزالون، ونستطيع تتبع أخبارهم في كل مكان، وبالأخص في التلفزيونات والصحف، فنستطيع أن نتتبع مواضيع إبداعية في الكثير من الصحف حول كيف يشرب الجواهري قهوته، أو الجمل في الشعر العربي، ومواضيع أكثر أهمية عن عيني سلمى في شعر سليم.

ويمكننا أن نتابع إبداع هؤلاء الأشخاص في برامج تلفزيونية، وكان أكثر ما أزعجني البرامج التي تتحدث عن كل شيء بنفس تسطيح مواضيع التعبير عديمة المخيلة التي كانوا يكتبونها في مراحل الدراسة الأولى، وكان من هذه البرامج برنامج عن فلسطين والشعر، فكانت المذيعة تقرأ كالتالي، وقد كان الشاعر يحب فلسطين والدليل على ذلك القصيدة التي يقول فيها: أنا أحب فلسطين ….إلخ. وأن الشاعر كان يشجع النضال .. ويحب الشهادة.. ويتبع كل ذلك فيديو كليب عن فلسطين، من كلمات الشاعر نفسه. إن هذه البرامج سوف تنال حتماً علامة عشرة على عشرة في مواضيع التعبير الأدبي، وسيكون الجميع مسرورين لكنني أتخيل ماذا سيكون رد فعل أي فلسطيني في الأراضي المحتلة وهو يتابع هذا البرنامج الهام!!.

معلومات إضافية

العدد رقم:
175