محمد سامي الكيال محمد سامي الكيال

عن المراكز الثقافية الأجنبية... و«الثقافة الوطنية»

تتبادر إلى الذهن لدى الحديث عن المراكز الثقافية الأجنبية العديد من التصورات والأفكار التقليدية التي كونت لفترة طويلة أساس نظرتنا إلى «الآخر»، والدور الذي يحاول أن يلعبه في اختراق «ثقافتنا الوطنية»، فتخطر على بالنا فوراً مفاهيم مثل «الغزو الثقافي»، «تفكيك الهوية الوطنية»..الخ،  ولعل تجربتنا الطويلة مع السياسات الكولونيالية في المجال الثقافي منذ بداية التغلغل الأجنبي في  الإمبراطورية العثمانية هي التي رسخت لدينا تلك التصورات، إلا أن نظرة أعمق قد تبين لنا أن المسألة ليست بهذه البساطة، وأن المماثلة بين  «الإرسالية التبشيرية» القديمة و«المركز الثقافي الأجنبي» المعاصر فيها الكثير من الإهدار للسياقات التاريخية.

من كلاسيكيات الغزو الثقافي
يمكننا هنا أن نعود إلى القرن التاسع عشر عندما كان الغزو الثقافي الناتج عن نشاط الإرساليات التبشيرية في أوجه، في تلك الفترة أسس بطرس البستاني (خريج تلك الإرساليات) أول مدرسة وطنية في بيروت، في حين كان الشيخ طاهر الجزائري في دمشق يبذل جهداً جباراً لافتتاح المدارس والمكتبات الوطنية. كلا الرجلين إذاً كان يسابق الزمن لتكوين خطاب ثقافي وطني مضاد للخطاب الثقافي الغازي،  ولعل سعيهما المحموم هو إشارة بالغة الدلالة على حالة من الحراك الاجتماعي  شهدتها المنطقة آنذاك، فمن جهة كانت البنيات الاجتماعية التقليدية قد وصلت حالة من الجمود والتلبد لم تعد قادرة معها على مواجهة أي تحد من أي نوع كان، وبالتالي فإن خطابها الثقافي (وحملته من المثقفين التقليديين) لم يعد بمقدوره الصمود في وجه أي فكر جديد، اللهم إلا بتدخل سلطوي يحصِّن حدود المجتمعات والعقل من أي مؤثر خارجي، ومن جهة أخرى كان التوسع الرأسمالي قد نجح باختراق حدود الإمبراطورية العثمانية وشرع بخلخلة كل بنياتها الاجتماعية التقليدية، ليخلق فئة من الوكلاء والوسطاء لمصالحه، ومعها فئة من المثقفين المرتبطين فكرياً واجتماعياً بالمركز المسيطر. وقد كان لهذا العزو موضوعياً عدد من النتائج الإيجابية، فهو قد ساهم في تنشئة جيل جديد من المثقفين، خاصة بين أبناء الأقليات والطوائف التي تمتعت بنوع من الاستقلال الذاتي في العهد العثماني، وقد اطلع هذا الجيل على آخر مستجدات الفكر الإنساني في الغرب، ولم يقبل بدور التابع، بل استفاد من المعرفة التي حصلها ليصوغ خطاباً ثقافياً نهضوياً وطنياً (كما في حالة بطرس البستاني)، كما أن ذلك الغزو قد نبه القوى الإصلاحية في جهاز الدولة العثمانية إلى ضرورة تطوير الخطاب الثقافي التقليدي، فاهتمت كثيراً بالإصلاح الثقافي ضمن مشروعها للإصلاح الوطني الشامل (كما في حالة الشيخ طاهر الجزائري الذي كان يعمل تحت إشراف الوالي العثماني مدحت باشا الذي عرف تاريخياً بلقب «أبو الدستور العثماني»). ومن هذين المصدرين انطلقت حركة  النهضة العربية بانجازاتها ومصائرها المعروفة للجميع.
 
غزو بلا إرسالية!!
االإستراتيجية الجديدة للغزو الثقافي تختلف كثيراً عما تحدثنا عنه في الفقرة السابقة، فاليوم لم يعد المركز المسيطر يعير الكثير  من الأهمية لنشر قيم فكرية جدية بين أبناء الأطراف التابعة له، كما أنه لم يعد يسعى لتفتيت البنى الاجتماعية التقليدية في تلك الأطراف، بل على العكس من ذلك بات يسعى إلى تفتيت كل كيان مؤسساتي وطني يتجاوز تلك البنيات، بعد ربطها بمنظومته العامة للهيمنة سياسياً واقتصادياً، والسيطرة على أفرادها بنسق كامل من الرموز وأنماط السلوك الاستهلاكي المعولم بسلطة وسائل الاتصالات الحديثة  التي لم تعد أية سلطة قادرة على الوقوف في وجهها، مع التشديد على كل تنويعات «الهوية» و«الخصوصية» و«الأصالة» و«الاختلاف»، فنحن نختلف في كل شيء، ونحافظ على خصوصيتنا في كل الأمور باستثناء أسلوبنا في الاستهلاك!!
ضمن هذه الشروط للغزو لم يعد هناك مكان للإرسالية التبشيرية والمدرسة الأجنبية اللتين كانتا تعلمان طلاب المستعمرات فيما مضى زبدة الآداب والفلسفات والعلوم الأوربية، لتخلق عندهم بذلك دون أن تدري بذرة تحررهم (فكرياً على الأقل) من وضعهم المذل.
   
عن «ثقافتنا الوطنية»
يمكننا الآن أن نخضع مفهومنا عن «الثقافة الوطنية» لبعض التمحيص، فالثقافة الوطنية بمعناها الحقيقي ليست حاضرة بتمامها وبشكل تلقائي في الهوية التاريخية والحضارية لشعب ما، بل هي نتيجة لفعالية مجتمع حديث، وتعبير عن حركته وتطوره وصراعاته وتعامله مع التحديات الداخلية والخارجية، وما تعرض له مجتمعنا منذ عقود من تدمير لفعاليته وحراكه، وإلغاء كل الأشكال المؤسساتية التي تعبر عن هذه الفعالية وهذا الحراك، جعل «ثقافتنا الوطنية» تموت قبل أن تولد، وهيأ كل الظروف لعودة كل التعبيرات الثقافية التي تنتجها البنيات الاجتماعية السابقة لنشوء الدولة الحديثة، وهكذا فعندما جاء الغزو الثقافي الذي تحمله العولمة كان الوضع ممهداً له تماماً... بهذه الطريقة أجهض الجنين الذي زرعه أعلام النهضة الذين تحدثنا عنهم في البداية.
وفي حالة كون الخطاب السلطوي أحادياً فإنه غير قادر على إقناع أحد وبالتالي فهو يقضي على أية محاولة لخلق هامش من الثقافة البديلة.
أما المراكز الثقافية الأجنبية في شرطنا الحالي فهي ليست أكثر من محاولات محدودة لجذب النخبة المثقفة للارتباط المعنوي بثقافة ولغة البلدان التي تنتمي لها تلك المراكز، وهي لا تسعى إلى تكوين فئة تابعة من المثقفين تلعب دوراً عضوياً في التمهيد الفكري للتبعية السياسية والاقتصادية، فآليات الغزو الثقافي المعولم التي تحدثنا عنها قد ألغت الحاجة إلى مثل فئة كهذه.
أما سبب بروز دور بعض المراكز الثقافية الأجنبية فهو يرجع إلى اهتراء المؤسسات الوطنية التي يفترض بها أن ترعى  النشاط الثقافي في البلاد، وهكذا تملأ المراكز ذلك الفراغ وتقوم بدعم بعض الأنشطة والمشاريع الثقافية المحدودة.
وبعد أن وصلنا إلى مثل هذا الدرك من الانحطاط الثقافي لا ينبغي أن نتفاجأ بأن النشاطات الثقافية المتفرقة والصغيرة التي يدعمها المركز الثقافي الفرنسي في دمشق مثلاً، قد باتت تخول القائمين عليه بتعريفه على أساس أنه «أحد أهم المنشطين للحياة الثقافية في دمشق»!!

معلومات إضافية

العدد رقم:
415