مارتن سكورسيزي: «عصابات» وول ستريت
انقسم النقّاد إزاء The Wolf of Wall Street. الفيلم يقدّم كاريكاتوراً صارخاً عن شارع البورصة والمال الشهير، في أعنف تجلياته وأكثرها تطرفاً، إلا أنّ مقصّ الرقابة امتد إليه، حاذفاً بعضاً من أهم المشاهد.
المال، المخدرات والجنس. عبر هذا الثلاثي، يقدّم لنا مارتن سكورسيزي (1942) كاريكاتوراً صارخاً عن عالم وول ستريت في أعنف تجلياته وأكثرها تطرفاً. «ذئب وول ستريت» مقتبس عن السيرة الذاتية لجوردن بلفورت (يجسّده ليوناردو ي كابريو في أداء لافت) الذي شق طريقه إلى وول ستريت وإلى الثراء الفاحش عبر التلاعب بأسهم البورصة والاحتيال على القوانين. يصوّر لنا سكورسيزي هذه المرة الوجه المعاصر لـ«عصابات نيويورك» الذي أخرجه عام 2002. إنّهم رجال وول ستريت ببذلاتهم الأنيقة ووسائلهم القانونية للاحتيال على القانون.
للأسف، احتالت الرقابة اللبنانية أيضاً على الفيلم واقتطعت منه نحو نصف ساعة، لكن المضحك فعلاً هو آلية عمل هذه الرقابة والمشاهد التي اختارت حذفها. خيار قد لا يكون عبثياً تماماً رغم سوريالته. يبدو أنّ العري لم يزعج الرقابة بقدر ما أزعجتها حفلات الجنس الجماعية والمثلية الجنسية، فاختارت أن تحذف مشاهد الجنس الجماعي التي تجمع بلفورت ورفاقه لتوديع العزوبية قبل زواجه، ما جعل الحوار الذي يتبع ذلك غير مفهوم للمشاهد كما عندما يذكر بلفورت اضطراره إلى أخذ حقنة بنسلين قبل الشروع في علاقة جنسية مع زوجته. وحذفت الرقابة أيضاً مشهد حفلة الجنس الجماعي المثلية التي يقيمها رئيس خدم بلفورت في بيته، وتفاجئ زوجته لدى عودتها، ما غيّر مجرى الحبكة الروائية بالكامل وانتقص من فكاهة الموقف. ويبدو اتهام بلفورت لرئيس الخدم بسرقة أمواله غير مفهوم للمشاهد.
أضف إلى ذلك أنّ الحياة الجنسية لبلفورت، كما يصوّرها سكورسيزي في النسخة غير المقتطعة من الفيلم، تؤدي دوراً مهماً في فهم أبعاد هذه الشخصية النهمة للحياة التي تدمن كل ملذاتها من المال إلى الجنس والمخدرات.
يأتي خيار الرقابة على الأقل في ما يتعلق بالمشاهد الجنسية المحذوفة ليعبّر عن ذائقتها الجنسية الخاصة المحافظة التي تسبغها على الفيلم وتفرضها على المشاهد. حظر لا علاقة له فعلياً بإباحية الصور المتناولة، بل بموقف الرقابة «الأخلاقي» أو العنصري منها كما في مسألة المثلية الجنسية.
في المشاهد الأخرى المحذوفة، يبدو هدف الرقابة هو تقصير مدة الفيلم، ولو انطوى ذلك على جعله غير متماسك ولا مفهوماً. صحيح أنّ الشريط بنسخته غير المقتطعة طويل نسبياً، لكن يبدو ذلك شبيهاً بكل الخيارات المتطرفة التي اعتمدها سكورسيزي في إخراج هذا الفيلم كأنما يحاكي فيها تطرف شخصية بلفورت المنعتقة من كل القيود.
بلفورت هو الذي يروي قصته في الفيلم. بذلك، يبدو سكورسيزي كأنه يتبنى وجهة نظره إلى حد ما، من دون تحميل الفيلم أي حكم أخلاقي واضح أو مستتر تجاه هذه الشخصية. هو يتماهى معها إلى حد ما ويصوّر لنا كل الأحداث عبر نوع من فانتازيا متخيلة تمجّد التطرف والإدمان. في أحيان كثيرة، يخال للمشاهد أنّها تحتفي حتى بعصابات وول ستريت وتصوّر بلفورت كـ«روبن هود» الذي يمنح الفقراء فرصتهم وحقهم في عيش الحلم الأميركي كما في المشهد الذي يقرر فيه ترك الشركة، ثم يغير رأيه. يصور سكورسيزي الحوار العاطفي الذي يجري بين بلفورت وموظفة كانت غارقة في الديون لمّا أتت إليه وانتشلها من الفقر وأدخلها حياة الرخاء و الثراء، لكن هذا المشهد اقتطعته الرقابة أيضاً! لا يحاكم سكورسيزي بلفورت في الفيلم، بل يحاكم وول ستريت ككل والنظام الرأسمالي المتوحّش والفاسد. في اختياره لهذه الشخصية العصامية التي شقت طريقها بمفردها من الفقر إلى الثراء الفاحش بين عصابات وول ستريت، كأنما يصوّر ثورة الفرد على النظام. المحير في العمل هو موقف سكورسيزي من هذا العالم المادي البحت الذي تنغمس فيه شخصيات الفيلم ضمن إطار لا يخلو من الفكاهة والأكشن، لكن أيضاً من السطحية التي تبدو متعمدة أحياناً في بناء الشخصيات والأحداث، ذاهباً إلى حدّ التطرف في تصوير كاريكاتور الحلم الأميركي. كذلك، هناك نبرة ذكورية تتجلى في الكثير من الحوارات أو في نظرة بلفورت ورفاقه إلى المرأة عموماً؛ إذ تبدو كأكسسوار يتغير تماماً كالسيارة مع ارتفاع الدخل، كما في خطاب بلفورت الذي يلقيه في الشركة ويعرض فيه الفرق بين الفقير الذي سيمر بسيارته الصدئة وزوجته التي تشبه البقرة ـــ بحسب تشبيهه ـــ إلى جانب زميله الغني في سيارته الفخمة وزوجته المثيرة. قد يكون هدف سكورسيزي هو التماهي مع هذا العالم ونقله للمشاهد عارياً متحرراً من الأحكام المسبقة، لكن في الوقت عينه يشدّد على سطحية هذا العالم الذي يحتفي به، ما جعل الفيلم أشبه بكاريكاتور يسخر من نفسه. تقنية معقدة يعتمدها سكورسيزي تستفز المشاهد وانقسم حولها النقاد، فاحتفى به البعض ورشحه للفوز بالأوسكار، بينما توقع آخرون عدم فوزه بسبب مقاربته المثيرة للجدل.
المصدر: الأخبار