تسليع التراث
بعدما تحولت اليوغا، من نوع من الممارسة الدينية التي يتبناها سكان المناطق البوذية، في العديد من مناطق الهند، كنوع من أنواع التقرب من الذات الإلهية العليا في سمو نحو التوحد، تلك التي تترافق مع معتقدات فلسفية مُحكمة ومضبوطة، إلى هدف آخر حيث تم اجتزاء ممارسة الرياضة كيوغا وأصبحت نوعاً من الرياضة الرائجة التي انتشرت في جميع أنحاء العالم ربما كنوع من الرياضة الروحية، كما أنواع التأمل الكثيرة التي انتزعت من صبغتها الدينية الفلسفية، واتخذت طابع ممارسة تسكينية للآلام النفسية.
والهام في هذه القصة، أن الفكر ينتزع من جذوره الفلسفية وتستلب منه الطقوس التي كانت يوماً ما طريقاً للوصول إلى عمق تلك الفلسفة، وتتحول تلك الطقوس، التي هي بعيدة نسبياً عن لُبّ الفكر إلى هدف ومبتغى بحد ذاتها، مع خروج عن سياقها، حتى لا يمكن التواصل مع أصولها الفكرية، وتبقى عائمة في بحر من الاستهلاك لكل ما هو مجتزأ.
بالمنطق نفسه تنتشر الآن الصوفية، حيث بين روايات إليف شافاق واورهان باموق وغيرهم، من الروائيين الأتراك والعرب، وصولاً إلى الروائي البرتغالي باولو كويهلو. أصبحت الصوفية يوماً بعد يوم نوعاً من الموضة، وأصبح من الرائج على صفحات التواصل الاجتماعي أن ترى أقوالاً لمحي الدين ابن عربي، بل وترى طبعات شعبية كثيرة لتلك الروايات على أرصفة الشوارع في نوع من التسويق الشعبي لذلك الفكر بأي ثمن.
وصار للرقصات والطقوس الصوفية المختلفة مشاهدون متابعون، ورسامون يرسمون الزي الصوفي، ويعتاشون من بيع لوحات تصور تلك الطقوس، أي أنه يتم ترويج ذلك الجانب الشكلاني المشوه من الصوفية، وبعبارة أدق ترويج «الدروشة» التي اقترنت بهذه النزعة الفلسفية في فترة الانحطاط العثماني، بعيداً عن روح الصوفية التي هي في جذرها التاريخي، ومنحاها الاجتماعي، معارضة للسلطات الثلاث: سلطة الدولة، وسلطة الفكر الديني، وسلطة المال.
ويتحول محتوى الصوفية وفكرها الحقيقي، إلى مادة استهلاكية ويندرج ضمن تلك الموضات الرائجة، التي ترى فيها نوعاً من الموضة (الأوريجينال).
وتستخدم تلك المنتجات (الروائية والشعرية والتصويرية والسينمائية) لترويج أفكار مختلفة تماماً عما ترمي إليه الصوفية في قالب تقليدي جميل تفوح منه رائحة التراث والنقاء.
بل أخذت الدراسات تتزايد لتوثيق طقوس الصوفية، في نوع من توثيق التراث اللامادي، في انتزاع «بريء» لتلك الطقوس من سياقها التاريخي والفلسفي.
كما انتزعت قبل ذلك الثياب الشعبية كلها لمنطقة المتوسط العابقة بالأزهار لتتحول إلى موضة البوهو (نوع من الموضة والاسم مأخوذ من البوهيمية) التي تجتزئ طقوس اللباس لدى مجموعات عديدة من الشعوب ففي خدمة الشركات التي تلعب على تعلق الإنسان الطبيعي بالملابس التقليدية المرتبطة بالطبيعة والتراث في خدمة مصالحها التسويقية لمزيد من الربح.
استهلاك التراث
الاستهلاك كما هو معروف من الناحية الاقتصادية، هو تدمير أو اهتلاك، السلعة أو الخدمة المنتجة عن طريق الاستعمال، ولكن في ظل سيادة الرسملة، لا يقتصر الاستهلاك على العالم المادي فحسب، بل يتم تسليع العالم الروحي أيضاً، ومنه نشاطه الثقافي، ليصبح هو بدوره بضاعة، تدر الربح، أي أنه يصبح قابلاً للاستهلاك، كالإنتاج المادي، من خلال تسليع القيم، والأفكار، والمعاني والمشاعر، ومن خلال الاحتفاء المبالغ فيه بأهمية الرموز(بعيداً عن محتواها الحقيقي)، وخلق نسخ مشوهة، عنها لما لها تأثير في الوعي الجمعي للجماعات والشعوب المختلفة، حيث يسهل ترويجها، لتكون النتيجة اهتلاك ذلك المخزون المعرفي المتكون عبر التاريخ الإنساني، الذي يمد البشر على مر التاريخ بالتجربة، كأحد أدوات اكتشاف الجديد، وأحد الخاصيات الملازمة للجنس البشري، باعتباره كائناً اجتماعياً من سماته الإبداع.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 786