بين قوسين ضَجِرنا.. ضَجِرنا
عبارة « هرمنا .. هرمنا» التي رددها مواطن تونسي، لحظة اندلاع الثورة التونسية، لم تعد اليوم بالقوة نفسها، أمام حرائق الربيع العربي، ومطباته الطرقية. الأرجح أن نهتف الآن «ضجرنا.. ضجرنا»، ذلك أن الرغبات لا تعكس بالضرورة الوقائع على الأرض،
وسط الأمواج المتلاطمة من الأكاذيب والخداع وحرب الكراسي. ولم يعد مجديّاً بأن يكون المرء مجرد دريئة، يتعلّم بها الآخرون، دقة التصويب إلى الهدف. هكذا سأذهب إلى نصٍ آخر لتخفيف وطأة الألم، والاغتسال من مدوّنة الزيف، والرائحة المريبة لربيع بزهور اصطناعية، مستنجداً بعبارة لغابرييل غارسيا ماركيز، وردت في متن مذكراته «عشتُ لأروي»: «لقد كان ذلك بالنسبة لي، أشبه بالعثور على الشعر مذابا في حساء الحياة اليومية» هذه العبارات من ماركيز في مذكراته «عشت لأروي» ترافقني منذ أيام وكأنها تميمة، فعلى بساطة مثل هذا القول، يبدو دقيقا وصارما، في وصف ما يصعب وصفه إلا في مجاز كهذا، ذلك أن هناك أشياء تعبرنا في مواقف عدة، لا نستطيع التعبير عنها بدقة، أو أننا حين نحاول وصفها نقلل من شأنها، لا أتذكر لماذا كان يشبه ماركيز ذلك الموقف بالشعر مذابا في حساء الحياة اليومية، لكنني أميل الآن إلى أنه كان يصف امرأة، امرأة ساحرة، اقتحمت الحشود، فأربكت المكان والعيون، إلى درجة أن حرارة المكان قد اختلفت وأن الهواء أصيب بمطب جوي، وأن طعنة ما، استقرت في الضلوع.
في أحيان كثيرة تخوننا اللغة في توصيف حادثة ما، أو أن بلاغتنا لا تصل إلى جموح ما نحتاج إليه في التعبير، فتذهب الجملة بخفة، من دون أن تترك أثرا، أو صدى، ولهذا السبب ربما، نتذكر جملة ما في رواية أو قصيدة أو شريط سينمائي، ترافق أرواحنا فترة طويلة، ريثما نعثر على جملة أكثر صقلا وبهاء.
البعض يردد على الدوام مقاطع شعرية من ديوان شاعر ما، وكأنها ملك شخصي له، مادامت قد تركت ندبة في روحه، أو وشما في صدره، وهذه المقاطع أو حتى الجملة الصغيرة، تعين الروح في التخفيف من أثقالها، وتسند الكائن الهش إلى جدار صلب يحمي هشاشته وعطب روحه.
مرة قال محمد الماغوط: لدي أغنية «كيفك أنت» لفيروز أهم من كل شعر البحتري!
هذه الجملة حقيقية تماما، على الأقل في لحظة ما، فهي تؤجل مصيرا بائسا ووحشة على الباب. وفي الضفة الأخرى، نقع على عشرات الصفحات التي لا تقول شيئا، وكأن الضجر هو المهمة الأساسية لهذا الكاتب أو ذاك، وهو يعبث بأحرف الأبجدية لتحويلها إلى مجرد كلمات متقاطعة وجمل هزيلة عرجاء في بيداء بلا دليل على الإطلاق، جمل كما لو أنها متاهة رملية فحسب!