ازدحام العلامات في «نصف قمر»
(استعملْ الكلاب ، تدرّبت من أجل النّساء...)
تُوجِزُ هذه الشذرة عمق البؤس والحصار، الذي ألقاه (قوباتي) في الفيلم، والذي يركض في البعيد القاصي من الواقع الكردي، لقد كتب وأخرج (بهمن قوباتي) أفلامه في خطوة لإنهاك التاريخ الكردي المرير في ذهنه وذاكرته، ثم لفَرْدِهِ دون هدنة في دهشة المتلقي .
في الغموض المحيِّر للمستقبل الكردي، يروِّض قوباتي موهبته من جديد في فيلم «نصف قمر» الذي يتلصص فيه على فرقة موسيقية كردية، تحاول عبور الحدود الإيرانية الى «المستنقع العراقي»، لإحياء حفل موسيقي كبير على طارىء التمادي بالفرح بعد ثرثرة الموت في وجه صدام،(مامو) الموسيقي السبعيني الذي يقايض الوجود ببلاغة العدم، حُرِمَ من الحياة (الغناء) مدة خمسٍ وثلاثين غربة في صحرائه (العراق)، ونفي ليرتب جحيمه الجديد في إيران.
يعمل (مامو) على تصريح أمني طيلة سبعة أشهر (والرقم سبعة، سيتكرر كثيرا في الفيلم )، تصريح سيهبه خِفّة من حنين، تدخله عِراقَهُ الأزلي، مغنياً له، فالذين مثل مامو كلما فتَّتَ عِراقُهم جحيما وطاغية غنوا له، غنوا له قبل الجحيم التالي وبعده، إذاً بخديعة الأبديّة أراد (مامو) رجوعه كمُنْتَظَرٍ وأراده قوباتي- كاوا- آخر يأتي ليشعل المشيئة الغافلة عن الفرح بصحبة أبنائه عازفي القلق والذهول، العابرين مع أبيهم (مامو) رطوبة المنفى باتجاه تهلكة، وبرزخ اسمه الحدود الإيرانية العراقية.
ينهض التيه بصخب الرحلة، عندما يتصل مامو( بكاكو) المدمن على فنِّه حدّ الإطاعة، ليبشرّه أنّ التصريح قد انكفأ عن المراوغة ليتريث في جيبه. يُعجِّل كاكو بتجسيد الحلم وإيقاظه، عندما يستعير الحافلة التي ستنفث (مامو) وأبناءه في العراق، الأصمِّ عن أغنيات عجوزه الذي لم يتقن كقومه غير صرخة اللحن ومواساة النغم لكل خساراته، تنطلق الرحلة المنذورة لغيب لم يكن رحيماً يوماً، يصعد أبناء مامو الحافلة جفلين من حماقة قد تكمن لهم في الطريق – بعضهم لم يجد في العودة ما يعنيه – تمضي الخردة المتصابية ذات العظام المعدنية لجلب مامو وابنه المتأخرين عنهم، لشؤون يزاولها مامو إيذانا لقدره بجسارة العودة وخطورتها، حيث تظهر في الفيلم هنا طقوس من صمت وتوتر وظهور أول لنصف قمر في السماء، ويظهر استشعار لقدر سيئ السريرة، يلمحُ مامو فيه مشهد يتكوّن من تابوت وشخص غامض تحشرجُ قلادته العالقة في نحره ترنيمة هلع ناضجة الأثر (سيتّضِحُ أن هذا المشهد جزء من مستقبل قادم للعجوز)، بعدها ستتسارع الأحداث و ستبعَث (هشو) المغنية رفيقة مامو من منفاها في قريةٍ على خط الهاوية مع العراق تعيش فيها 1334 مغنية منفية، ثم ستتلاشى هشو كيأسٍ في دخول السحري حيِّزَ الواقع عندما سيتواطأ الأخير بخبثه مع السحري في العمل لتكمل الرحلة تشابكها واستعصائها مع لجوئهم لصديق قديم لمامو بغية المساعدة، ثم موت الأخير آن وصولهم وبروز نصف قمر (الفتاة المغنيّة) التي تتكاثف ببروزها شيفرات العمل وتتعقد المهمة، حتى تنتهي بموت مامو طائحا من شدة الإعياء بين مكائد الغموض على عتبات العراق.
اعتمد قوباتي في تصويره على تقنيّة الصور المتعاقبة، حيث كل لقطة في الفيلم صورة مكتملة العناصر تقر دلالاتها وألغازها ورسائلها، وهذه التقنيّة تناسب الفيلم ذا الطابع النصي لمَّا تأخذ عناصر تلك الصور دورا يشبه اللّغة التي تعِّبر بالسرد عن دقائق الرواية، لقد استفاد العمل من وعي الحكاية في النص السينمائي عندما تشرعن وجودها بما تحمله من تأمُّلات وتأويلات في المطروح، فحركية المشهد أو تفاقم الأحداث تبدي الحكاية مع فضائها التخيلي لكن هذا لا يبنيها بأبعادها المفترضة إلا بحضور التشظي المرئي الذي ينقل الصورة نحو اللامرئي في ألعاب التخمين، كتعابير وجه مامو وكاكو الذين يشبهان لوحات عمر حمدي (مالفا)، بتجاعيد أكبر من اللوحات التي تشبههم، لقد أكمل جوُّ الصوفية والأثيرية العالية هذا الغنى البصري، فكل لوحة بصرية مُشَاهَدَةٍ، دربٌ ميثولوجي وتراثي وثقافي وتاريخي، أما الذي خلق للفيلم ثِقَلَهُ الباهت المأساوي، تضافر العلامات والإشارات التي تدلل للخيبات والإخفاق: منفى رمادي، أصوات خرساء سيظل الغناء فردوسها، غموض مشعوذُ يقبض على بهجة المكان، مدن مسلوبة الأديم معلقة على ظهور جبال نزقة، ثلوج ترنو لخنق الأرض مع عارها بعد أن اختفت خيارات الهطول، عجوز في رعب الوحدة والماضي الذي لايزال في الذاكرة يقذف القهر، أطفال في العراء بعد غرق المدرسة كأنها خارج اليابسة، خفوت وصرامة ورصاص واستغاثة من صديق ميت وديكة زَجُّوا بها في لعبة خاسرة، تأويلات ومكائد بصرية تملأ ذاكرة المتلقي من بيئة (قوباتي) العثرة، لكن أهم مضامينها يبقى في شخصية مامو وفي ظروف موته، فمنيّته وهو يحاول العبور ربما انعكاس للثقافة الكردية التي تنتج في مناخات الموت الذي يستطري لحمها، أو هي فرصة لمامو حتى ينعجن مع تراثه كرمز في لحظة صادقة هي الموت، فكاوا الجديد ما عادَ حدادا بل عادَ بشقّهِ الكردي الثاني وهو الموسيقي.
إنَّ عملاً عن الحدود أو عند الحدود، هو عملٌ ضدَّ الحدود التي تقتل من كل الجهات، من السماء ومن الأرض بحيواناتٍ ناريةٍ كـ(الخلند المتفجر أو الفراشة القصديرية الخاطفة) لذلك فالحدود شريط مجرم، يَسْلبُ كأي معتقل طلاقَتَكَ، بهذا كلّه كان الفيلم تميُّزا فنيَّاً خالصاً على الرغم من خروج – قوباتي- عن صرخته الإنسانية أحياناً للغوص في إيديولوجيّته القوميّة، لاستحضار حلم قومي لن يولد، بعدما تعرَّضت له الانسانية عموماً والقوميّات خصوصاً من تغيّر رهيب في علاقات الإنتاج وتعقُّدٍ جذري في وجودها السياسي، لكن بالعودة للعمل سنطالع إجابات عن حيرة الفيلم كثيرةٍ كفجائع الفيلم ذاتِه، لكن الإجابة التي سترضي قوباتي والمشاهد هي أن الموسيقا الكرديّة الإنسانيّة ستغني ضد الموت والاندثار والفناء، لذا فمن سيغنّي سيصرعه الموت في النهاية، لكنّ تصاريف الخلود بحسابها الإنساني ستكفل له مقعداً قرمزيا.