الشيخ الشيوعي هشام الباكير الشيخ الشيوعي هشام الباكير

من التراث «الملكة رضيّة»

كان «لقطب الدين أيبك»أحد سلاطين الهند المسلمين، مملوك ذكي وشجاع اسمه «التمش أو أيلتموتمش»، فرباه على صفات الرجولة والخير، فلما مات قطب الدين، جمع«التمش» القضاة والوجوه والأعيان وأعلن استقلاله بالملك، وفتح القاضي فمه ليتكلم ففهم«التمش» وتبسم، وسبقه فأخرج من تحت مصلاه كتاباً مختوماً، ودفعه إليه ليقرأه على الأشهاد، فإذا هو كتاب عتقه وتحرره من الرق، وتمت البيعة.

وسار في الرعية كما قطب الدين فكان محباً للعدل مقيماً للحق، سنّ فيه سنّة خير وبركة، هي أن لباس عامة أهل الهند البياض فجعل لبس الثوب الملّون علامة التظلم والشكوى، فمن ظلمه أحد كائناً من كان، لبسه وعرض له في أي مكان، فأنصفه من ظالمه، ثم خاف ألاّ يرى المظلوم، فجعل على باب قصره(جرساً) كبيراً يقرعه المتظلم في أي ساعة من ليل أو نهار.

وكان محارباً مظفراً... وحاكماً عادلاً، لكن أولاده لم يكونوا مثله فقد أفسدهم النعيم وفتنتهم الدنيا، وبذل في إصلاحهم جهده فلم يفد في إصلاحهم جهد، فيئس منهم، وتوجه إلى بنت له ذكية، فطنة، جميلة، شجاعة تقحم الموت ولاتبالي، اسمها «رضية»، فصرف همه إليها ووكل بها المعلمين والمربين ودربها على فنون القتال والسياسة.

ولّما مات«التمش» ولى السلطنة ابنه الأكبر«ركن الدين فيروز شاه» فأساء وظلم وبلغ من عدوانه أن قتل أخاه«معز الدين»، وامتلأت قلوب الناس بغضاً له وخوفاً منه، فلم يكن من«رضية» إلا أن بدأت هي الثورة، تراءت للناس من سطح دارها، وقد لبست الملّون شعار المظلومين على عهد أبيها، فاجتمع عليها الناس، فدعتهم إلى نصرتها فأجابوا وقادت الثائرين فنازلت بهم أخاها وقبضت عليه وحكمت عليه بالإعدام قصاصاً له بقتل أخيه، وتولت هي السلطة في يوم /18/ربع الأول/سنة 604ه/.

بويعت بالملك، فودعت أنوثتها واتخذت زي الرجال ولبست لباسهم وبرزت للناس، متخذة هيئة الجد والصرامة، وأعادت سيرة أبيها في عدله، وكان تحل المشكلات بنفسها وتخوض المعارك، وشهد لها المؤرخون أن عهدها كان أحسن عهد عرفته الهند.

لكن الناس مع ذلك لم يكونوا راضين، بعد أن انطلقت ألسنة المحدثين والناقمين وتكررت على المنابر الأحاديث من أمثال«ذل قوم ولّوا أمورهم امرأة» وبدأت هذه الحملات همساً ثم ظهرت وتبينت ثم استحالت إلى مؤامرة محكمة تولى تدبيرها أخوها الأصغر، والوزير«نظام الملك» ورؤوس القادة.

وأصبحت يوماً فإذا هي سجينة في قصر مطوق بالأعداء، فلم تستكن وبعثت تستثير أنصارها، فهب لنصرتها حاكم«أود» وجاء بالجيش يدافع عنها ولكن الناقمين كانوا أقوى منه، فغلبوا جيشه، وأحكموا قيده وألقوه مع الأسرى، فمات من قهره.

عادت للحرب من جديد ولكن بسلاح المكر والذكاء هذه المرة، ألقت بالعداوة بين خصومها، ثم استعانت ببعضهم على بعض، حتى إذا لم يبقَ أمامها إلاّ الأقل منهم، ضربتهم ضربة من لا يرحم واستقامت لها الأمور من جديد.

لقد جمعت من العقل والحزم والشجاعة وحسن السياسة، مالم يجمع مثله إلاّ الأفذاذ من الرجال.

ولكنها هزمت من كونها امرأة... كان لها عبد حبشي اسمه«ياقوت» تأنس به، وتثق بإخلاصه، فرفعته من مرتبته الصغيرة إلى رتبة أمير الأمراء، فأطلقت بذلك ألسنة الناس بالكلام عليها، فزعموا أنّ بينها وبينه أكثر من هذا، وثار أمراء الأقاليم عليها، وكان أول من ثار منهم حاكم«بتهندا»، فسير إليها الجيش، فأسرعت تقود جيشها إلى المعركة، وهي واثقة من النصر، ولكن الجيش الذي أوغرت صدره تلك الشائعات، لم يعد يرى فيها سلطانةً، بل امرأة قبيحة السيرة، مهتوكة الستر، فاستسلم جيشها لحاكم«بتهندا» وأسر الحاكم الملكة، وجمع الأمراء فأعلنوا خلعها، ونصّب أخيها الأصغر«ناصر الدين بهرام شاه»، وأرغمت هي على الزواج من حاكم«بتهندا» وسارت معه إلى إقليمه وهناك سلّت سلاح أنوثتها وفطنتها من جديد، وملكت أمر زوجها فأسلمها قيادة جيشه، فوثبت به تلقاء العاصمة«دلهي» لتستعيد ملكها الضائع، فكان وجودها على رأس الجيش، سبب عصيانه من جديد وتخليه عنها ولم ترض أن توقع بنفسها في الأسر فهربت.

ضّلت أياماً وهي بلا زاد ولا مأوى حتى نال منها التعب والجوع، فلجأت إلى فلاح في البرية يحرث أرضه فوجدت عنده كسرة خبز، فأكلتها ونامت من التعب وهي بلباس القواد.

رأى الفلاح طرفاً من ثيابها فعلم بأنها امرأة فاحتال عليها... ثم قتلها، ودفنها في الحقل وأخذ ثيابها يبيعها في السوق، فشك الناس فيه وقادوه إلى الحاكم، فاعترف بفعلته فقتل، وأخرجت الجثة فدفنت في قبر مهيب وكان ذلك في/25/ربيع الأول/637ه/.