«بدايات» معلوف و«نهايات» منيف على طاولة واحدة!
لا تستوقفني العناوين ودلالاتها كثيراً، خاصة عندما يتعلق الأمر بعنوان رواية. فبعد قلب الغلفة المتأني، ولكن المتلهف أيضاً، سرعان ما أقع حبيس العوالم التي تخلقها، وهو حبس اختياري، وإن شئت استلاب إرادة اختياري!
يجري ذلك بالمتعة نفسها التي يسلم بها الإنسان نفسه لشاشة السينما الضخمة سامحاً لها بالسيطرة عليه، ومعلقاً أمله عليها في اكتشاف عوالم جديدة، وحتى في اكتشاف عالمه نفسه الذي لا يترك له صخب الحياة ومشقتها مجالاً لتأمله كما ينبغي، أو بالمتعة ذاتها التي يسلم العاشقان نفسيهما كل للآخر..
هذه المتعة، متعة الانقياد مع الروائي وروايته، لا تلبث أن تتلاشى مع تراكم القراءات وتراكم خبرات الحياة، فلا يعود بمقدور القارئ التسليم بما يقرأ دون موقف نقدي. والقراءة النقدية نفسها هي متعة أكثر تعقيداً، ولكنها مع ذلك متعة من نوع آخر! إذ أنّ حالة الثقة البريئة التي يتعامل بها القارئ مع الكاتب في بداية قراءاته تجعل الاستسلام له مبرراً، والاستسلام هنا علامة من علامات التعلم الباكر، ومن علامات القراءة على سبيل المتعة، ولنقل حتى، التسلية.. بما تعنيه الكلمة من نسيان وتذكر، نسيان العالم المعاش بتفاصيله المباشرة، وتذكره وإعادة تشكيله انطلاقاً من عالم الرواية.
تراكم القراءات، كما أسلفت، وتنوعها أيضاً، يبدأ بنزع حالة الاستلاب هذه، وإبدالها حالة انتقادية تصحبها متعة من نوع آخر. ومع ذلك فإنّ الحنين للحالة الأولى يظهر مع الصفحات الأولى من كل رواية جديدة، ولكنّه غالباً ما يتلاشى سريعاً. إنّ عودة الحنين– بعد تراكم القراءات المتنوعة- وعودة الرغبة في أن تكون الرواية التي قلبت غلفتها لتدخلها للتو، هي رواية قادرة على استلابك، لا تتعلق بمتعة «الهروب من الواقع» كما يمكن للمرء أن يتصور أول الأمر، بل على العكس من ذلك تماماً! فمع نمو الحس النقدي وتطوره، تغدو الروايات القادرة على استلابك أكثر ندرة، إنها تلك الروايات التي تتفوق عليك في عمق انتقادها، إنها الروايات العظيمة التي تعيد إدخالك إلى الواقع مسلحاً بفهم أعمق وبرهافة حسٍ أعلى..
عود على بدء، وبالحديث عن عناوين الروايات، فقد شاءت المصادفة أن أقرأ خلال الأيام القليلة الماضية، وبالتوازي، روايتين هما: «بدايات» لأمين معلوف، و«نهايات» لعبد الرحمن منيف، الأولى تقع في 470 صفحة، والثانية في أقل من مئة.
بدايات معلوف هي محاولة لإعادة كتابة سيرة جده بطرس استناداً إلى رسائله والأحاديث التي رويت عنه وعن أبيه وأقاربهما، وهي في جوهرها إعادة كتابة لتاريخ منطقة من لبنان وناسها، والهدف النهائي يتم الإفصاح عنه في مقدمة الكاتب نفسه، الهدف هو النهايات، لا البدايات، الهدف هو مسألة الهوية بالطريقة البائسة التي تستهوي أولئك المتمزقين بين الشرق والغرب، والذين تغدو مسألة الانتماء بالنسبة إليهم مسألة تنظيرية بحق، وفوق ذلك فهي تنظيرية ضمن إطار ضيق هو إطار العِرق والدين والقومية وحتى اللون.
نهايات منيف تروي قصة سنة من سنوات المحل القاسي التي تضرب قرية متاخمة للبادية، وتتخفف من عبء «الهويات الاستشراقية» لتدخل في صلب المسألة، «فلاحون يواجهون سَنَة محل قاتلة»، هذا كل ما في الأمر! ما تبقى هو كيف يواجهونها؟ ومن هم؟ كيف تبدو وجوههم وكيف يشعرون؟ بل وأكثر: تكاد «الطيبة» التي يتحدث عنها منيف تشكل تكثيفاً لوطن كامل، بل لأوطان، وعساف الصياد رمز ثورتها، والحكومة التي لا تفي بوعد السد سنة بعد سنة، هي العدو وهي المَحْل..
بدايات معلوف مبنية انطلاقاً من نهايات «نظرية» وضعها سابقاً. هي رواية للحديث عن الهويات وتمزقها، ولا يعدم المرء خلال القراءة انحياز الكاتب (الذي طالما ادعى أنّه متعدد الهويات المتساوية والمتداخلة) إلى هويات بعينها وإلى روايات محددة للتاريخ تتقاطع–مصادفة- مع رواية الأحزاب الأشد يمينية ورجعية في لبنان. هذه الرواية هي من ذلك النوع الذي يحول متعة السرد إلى متعة زائفة، قلّما يفهم القارئ المغزى، ويرى فيه سوءاً فإنّ حالة التحفز والاستنفار تجعل من الرواية كتاباً فكرياً هزيل المحتوى، ذلك أنّ مضامينه التي يمكن أن تكتب وتكثف في صفحات قليلة موزعة بوصفها ألغاماً داخل سرد يمتد على مئات الصفحات.
«نهايات» منيف مبنية على بداياتها، هي حبكة متصاعدة تعكس واقعاً متأزماً ينشد حلاً، هي رواية ممتعة ومستلبة وغنية بل ومدهشة، والدهشة هذه عنصر فائق الأهمية. إنّ غنى الرواية انعكاس لكاتب اغتنى بتفاصيل الواقع، فلم يكن بحاجة لإقحام عدّته النظرية في صلب روايته لذلك الواقع، الوقائع ذاتها بتفاصيلها الهائلة هي البدايات التي تسمح للقارئ ببناء النهايات الموافقة، على العكس من «بدايات» معلوف التي ليست في حقيقتها سوى نهايات يعيد كتابة الوقائع على أساسها..