حول الاحتفالية: سنستمر بالندب.. وما حدا أحسن من حدا!!
يقول الفيلسوف أنطونيو غرامشي في كراسات السجن: «في أي عمل عضلي، حتى أكثر الأعمال تدنياً وآلية، لابد أن يتوفر فيه حد أدنى من المؤهل الفني، أي الحد الأدنى للنشاط الفكري الخلاق.. يمكننا إذاً أن نقول إن كل الناس مثقفون، ولكن ليس لكل إنسان وظيفة المثقف في المجتمع.. وهذا يعني أنه إذا كان بإمكاننا الحديث عن مثقفين، فإنه لا يمكننا الحديث عن غير المثقفين، لأنه لا وجود لهم.. وكل إنسان في النهاية يقوم خارج نشاطه المهني بشكل من أشكال النشاط الفكري، أي أنه فيلسوف، فنان، ذواقة يشارك الآخرين رؤيتهم الخاصة للعالم، وله مسلكه الأخلاقي الواعي، وهو بهذا يساهم في المحافظة على رؤية معينة للعالم، أو يشارك في تغييره. أي أنه يساهم في خلق طرائق جديدة في التفكير».
ينقلني هذا مباشرة إلى مقالة الأستاذ رائد وحش (حول احتفالية دمشق في العدد 342)، وأوافقه الرأي بأننا (كلنا وبالمقدار ذاته معنيون بالأمر)، ولكنني أختلف معه في السبب، (لأنها فرصة ثقافتنا للوقوف على قدمين صلبتين...)، بل أعتقد أن السبب يكمن في أن للجميع الحق بأن يكونوا معنيين بالأمر، أي للجميع حق الاختلاف، وبالتالي التعبير عن ذلك بانتقاد أخطاء الحكومة ووزارة الثقافة والأمانة العامة لاحتفالية دمشق، وكل من موقعه كمواطن – مثقف، دون الخوف من الاتهام (بالندب والنواح).. لقد عانت الثقافة وما تزال في بلدان العالم الثالث عموماً، وفي منطقتنا وسورية تحديداً من أمراض أصابت مثقفيها، وأعني العاملين المحترفين بشؤون الثقافة أمام واقع اقتصادي اجتماعي سياسي متراجع بشكل مطّرد، فمنهم من اتجه إلى أبواب السفارات والمراكز الثقافية الأجنبية ووكلائها بحثاً عن مصادر التمويل والشهرة مهما كانت الشروط المفروضة عليهم أحياناً، ومنهم من أصبح مثقفاً- موظفاً وبوقاً يقبض أجره على عدد الأسطر، بالمقابل قلة قليلة تعاني غالباً من ضعف الكفاءة الذاتية تارة، ومن العوائق الخارجة عن إرادتها تارة أخرى، بقيت تسبح بعكس التيار، وتحاول بشق النفس إنتاج ثقافة أصيلة، هؤلاء اتُهموا على الدوام من الخارج بالأصولية، ومن الداخل بأنهم مصابون بعقدة المؤامرة (مؤامرة الغرب على الثقافة الوطنية)، وبقي جزء آخر من الندابين والنواحين حقيقة الذين لم تسعفهم (مواهبهم) من الالتحاق بأي من النوعين الأول والثاني، وهؤلاء يسمي معظمهم المواطن العادي (مثقفي المقاهي)..
إن انتقاد وفضح هذه الأمراض هو واجب بلا شك، ولكن لا يجب بأي حال من الأحوال وضع هؤلاء المثقفين جميعاً، هم وانتقاداتهم وآراؤهم في سلة واحدة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لا يجب تبرئة السياسات الحكومية في شؤون الثقافة من مسؤوليتها السابقة والحالية عن خلق بيئة خصبة لهذه الأمراض..
أعود لمقالة الأستاذ رائد لأقول: حسب معرفتي، بقدر ما تملك سلطة تتحمل المسؤولية، فالمسألة إذاً هنا ليست اسم الدكتورة حنان قصاب حسن، أو أسماء أخرى في الأمانة العامة، المسألة ببساطة، أنك تتحمل مسؤولية بقدر السلطة التي تملك.. لقد مضى وقت ليس بالقصير منذ كان يجب البدء بالتحضير لهذه الاحتفالية، وما رأيناه حتى الآن لا يريح أبداً، فانتقادات الجمهور، والأخطاء الواضحة التي ارتكبت بحاجة إلى جرأة في نقاشها في الصحافة ووسائل الإعلام. أما بخصوص مبادرة التاجر الذي قلب المعادلة فليس بوسعي إلا القول: إنه فعلاً الوحيد في هذه المعادلة الذي فهم مصلحته وهامش حرية حركته ودعايته، وضحك على الجميع أخيراً، ولكني لن أعتقد مطلقاً أن نهضة الثقافة ستكون على يده، أو بلافتات الترحيب، وكرم الضيافة، والقهوة العربية سواء أكانت بـ(هال) أو بدونه، أو (إكسبريسو) حتى!
إن الجلوس مكتوفي الأيدي أمام واقع سيئ هو فعلاً استسلام للواقع، ولكن تسويق شعارات (تعلية سقف الأمل)، (فرصة لنهوض ثقافي)، دون مناقشة هذا الواقع واستخلاص العبر هو سذاجة..
إن أهم ما يميّز جدية نوايا العاملين في الثقافة عموماً وفي الاحتفالية خصوصاً، هو ذلك العمل الجدي الاستراتيجي على إنتاج وتأهيل الكوادر الوطنية، والمؤسسات الوطنية المنتجة لهذه الكوادر..
من هنا، كمواطن عادي، أضم صوتي لإخواني المواطنين، وباعتبار جميعنا مثقفين أيضاً، بحسب ما منحنا إياه المرحوم غرامشي، ونسأل زملاءنا المثقفين المحترفين في الطرف الآخر، حكوميين وغير حكوميين، وخاصة العاملين في الاحتفالية، وبلهجتنا التي بسببها قد يجردنا البعض من صفة (الثقافة):
• شو مشان إنو ما عرفنا إنو دمشق عاصمة للثقافة العربية لحتى شفنا الصواريخ وسمعنا الفتّيش، وبعدين انجلطنا لما سمعنا أرقام تكاليف الفتيش وضرّيبة الفتيش، وجمباز وتقّيلات الطليان متل ما نوّرنا أخونا المواطن لقمان ديركي، وقارنّا رواتب الطليان برواتب السيريان؟؟؟
• شو مشان وانحطت هالمصاري لترميم وبناء مسارح، دور سينما، تمويل مشاريع ثقافية شبابية بأعداد كبيرة نسبياً، توسيع معهد الموسيقا والمسرح وحلّينا أزمة الطلاب المعترين؟؟
• شو مشان فيروز؟
• شو مشان باب شرقي والبيوت اللي رح توقع؟
• شو مشان البيوت الأثرية اللي عم تصير مطاعم، وكل ما منجيب سيرتها بتقولوا وقفتو التراخيص؟
• شو مشان تحقيق طويل عريض عن دار الأوبرا نشرتو جريدة قاسيون، ولا مسؤول سوري كلف خاطرو وردّ عليه؟؟
• شو مشان ما حدا أخد رأينا بكل هالاحتفاية وبرامجها؟
• بالأخير ما فينا إلا نحط (مشاكلنا الصغيرة) بوجهكن، وبرسم حكومتنا اللي وزارة الثقافة وحدة من وزاراتها، واللي بتشوفوا إنها هموم مواطن عادي ما إلو علاقة بالثقافة، واللي هيّة:
• شو مشان أزمة المازوت والغاز والغلا والمواصلات والسكن والدعم؟؟ عندكن خبر إنو بدو ينرفع ولّا.. لأ؟؟
وهيك، فبخصوص الاحتفالية، المكتوب مبيّن من عنوانو.. لذلك (وعفواً للعودة للعربي الفصيح)، نهنئ أنفسنا ونهنئكم أننا أصبحنا زملاء، ويحق لنا ما يحق لكم.. وعفواً مرة أخرى: (ما حدا أحسن من حدا)، وسنستمر بالندب والنواح طالما ستبقى الأوضاع على حالها، وفي حال تعبتم من نواحنا، وقررتم إشراكنا في خططكم وبرامجكم، ستجدوننا حولكم في كل مكان..