مطبات: الحافة
كأنهم لم يكونوا بالأمس، ولم نقرأ لهم، ولم نفتش في حواري الكتب القديمة عن أسمائهم، ليس زمناً بعيداً طويلاً هذا الذي اتخذ فيه قرار الرحيل، لقد استشاطوا غيظاً من عالمنا الذاهب إلى الانفتاح.
مروا سريعاً على أيامنا، ولكنهم تركوا فينا هوة لن تردمها سنوات القحط التي تحاصرنا بالفضائيات، ولقمة العيش السريعة، والفتات الثقافي العَجول، اللغة الغارقة في الجوع، المدارس التي تربي أبناءنا على النذر القليل من الدروس الخاصة، والبرامج الثقافية الجافة على تلفزتنا المحلية، وسقوط عصا الأستاذ أمام حق الطالب في الوقاحة.
مروا سريعاً، وتركوا مساحة لنا لننسى، قصائدهم، حماقاتهم، أحلامهم، تفاؤلهم، توقعاتهم عن جيلنا الذي سيكمل رسائل اعتقدوا أنها لن تسقط بغفوة موتهم السريع، وراهنوا على ذاكرتنا الفطرية التي سوف ترمي بسرعة فقاقيع العابرين، مغني اللحظات العابرة، شعراء المواسم والمناسبات، سبايا اللغة الجديدة، راهنوا على استمرارهم فينا، فماتوا في صدورنا، ماتوا مجرد فحم من قصيدة، توابيت من حفظة، ومومياء في صدر يئن من نفث الدخان في المقاهي.
جئنا بعدهم، تكراراً مملاً، وحفظة جهلة، مخادعون في فراش عابرة نهسهس في أذنها قصائد ليست لنا، عن الحب، النضال، المشاغبة.. جئنا مواسم لتمضية الوقت، كراسٍي في حانة نلهث وراء قدح يانسون مخفف بالماء، أو زجاجة بيرة لمجرد إطلاق رائحة الثقافة المقهورة، لم نشبههم حتى في انحدارهم إلى الرذيلة، فكيف سنشبه ألقهم.
على عجل نحيا، نحن أبناء السوق المفتوحة على اجتهادات خطة الفريق الاقتصادي، نحن الذين نحيا في وقت اللهاث وراء كتابة مقال من أجل لقمة عيش، لا من أجل صرخة مخنوقة في صدر أرملة مطرودة من بيتها في كفرسوسة، متسول في الثمانين يجأر من حاجة أذلته، من صوت امرأة هربت إلى الشارع من خوفها من السكون، من فتاة اختارت شارع الظلمة لتهرب من زقاق الذل، اختارت حياة الليل من أجل المال على الموت من كثرة الشرف، لماذا هنا فقط تتساقط النساء من أجل جريمة شرف في سوق مفتوحة على الاحتكار وكلمة الشرف التي ينطقها تاجر ليلمّ ما تبقى من قروش في جيب معوز.
إنها السوق التي تورطنا في الذهاب بعيداً عن شفافية أرواحنا الحالمة بقصيدة غنتها فيروز أمام حشد في معرض دمشق الدولي، أيام كان لبردى صوت لا يسكت، أرواحنا التي كانت تتوق لحضور مسرحية مفاجئة في مهرجان دمشق المسرحي قبل أن نواريه النسيان، أرواحنا التي طالما أعيت الضجر لحضور فيلم من ثلاث ساعات (الإمبراطور الكبير)، أرواحنا التي لم تنسَ بعد أيام مهرجانات السينما الطلابية، أفلام لم تستطع السوق قهرها في ذاكرتنا (يوم الأحد في جهنم)، أو مسرحية لجواد الأسدي ( تقاسيم على العنبر رقم 6).
من منا لم يدفعه أحمق لذيذ أمام سينما الشام عندما كان المسرح قاسماً لليل دمشق، ومجانين دمشق، من منا لم يتورط في مواعدة بريئة لمشاهدة عرض في الهواء قبل أن تدخل دار الأوبرا حياتنا، وقبل أن تتحول خيلاؤنا في شوارع دمشق القديمة لمجرد حفريات مفاجئة، ورائحة الياسمين الدمشقي ذكرى ترميها رائحة الصرف الصحي المار في جوار قلعة دمشق الكبرى، من منا لم يرأف لحال خولة بنت الأزور وشرحبيل بن حسنة في باب توما من زكام النهر الآسن، ويتشوق لسماع الماغوط يتحدث عن عيون نساء باب توما.
مروا سريعاً.. محمد الماغوط، عدوان، قباني، رياض الصالح الحسين... درويش آخرهم، مروا أحياء.. اليوم مروا أمواتاً.. نحن على الحافة.. هوة من الزمن الضائع لم نستطع ردمها.. السوق المفتوحة التهمتنا، والسير الطويل على الحافة لن يطول بنا، هناك كثير من البرد سيقودنا هائمين إلى الحافة.