مطبات: مسلسل تركي..انهدامي
يغامر أبو غدير بالآلاف القليلة التي يملكها، الآلاف التي جمعها من شقائه في الوظيفة ودوام المساء في الشارع، وذلك حسب المواسم، ففي الشتاء يبيع الفول و(العرانيس)، وفي الصيف غزل البنات وأوراق اليانصيب، وهكذا حتى تنتهي دورة الفصول ومعها العمر المرير، واليد المقبوضة.
بعد عشرين عاماً من الوظيفة، ومثلها من الدوران خلف عربة البيع، وبعد أن دخل في العقد الخامس من عمره قرر (أبو غدير) أن يبني غرفتين مع المنافع، الآلاف التي جمعها لا تشتري منزلاً في وسط مدينته الصغيرة، استشار الجيران والأقارب والأصدقاء، ماذا تفعل له هذه الآلاف؟ الجواب الذي اتفق عليه الجميع بحكم الخبرة.. هناك على أطراف المدينة يمكن أن تصنع لك آلافك سقفاً محمولاً على أربعة أعمدة، ومطبخاً صغيراً وحمّاماً يتسع لجسدك الهزيل.
في انتظار (أبو غدير) المتباهي بشقاء عمره يجلس بانتفاخ متعهد المخالفات، المتعهد الذي تربطه علاقة وطيدة مع من بيدهم غض الطرف عن مشروع بناء لا يحتاج أكثر من نهاري عطلة وليلة جمعة، وبصراحة تفوق الوقاحة يعدد المتعهد كيف ستوزع أموال المتباهي على الساكتين عن مخالفته، وعلى العميان الذين سيمرون بجانبها ولا يرونها، وعلى النائمين على قرارات متشددة ومراسيم تقودهم إلى السجن بسبب عماهم وسكوتهم.. لكنهم يقبضون في الزوايا ثمن التضحية بالقانون، وحجتهم أن الناس تحتاج إلى أن تؤوي رؤوس أبنائها.
لا يخلف المتعهد في موعده، ثلاثة أيام ينتصب البيت في عطلة نهاية الأسبوع التي صارت من مساء الخميس وحتى صباح الأحد، البيت المنشود يشبه البيوت التي تجاوره في الحي الذي لا يبعد أكثر من كيلومترات قليلة عن المدينة، هنا يتشابه الناس والبيوت، لا كهرباء نظامية، شبكة ممدودة على وجه الأرض، حفر فنية للصرف الصحي، خطوط الهاتف تتشابك على عصيّ طويلة ومترنحة، ونساء جالسات على مصاطب من أسمنت باهت أمام أبواب أضيق من أن يلجها طفل سمين، هنا.. الحلم الذي انتظره (أبو غدير)، ومن أجله لم يعرف كيف كبر أبناؤه.
على المصطبة الأسمنتية التي صارت باهتة بعد شهر، يروي الساكن الجديد في جلسة تعارف مع جيرانه: فجأة كبر الأولاد، ترك الكبير المدرسة، الثاني في سلك الشرطة، والثالثة تدرس في الجامعة، والصغير يعمل في مطعم.
هنا.. في هذا الحي والأحياء التي تشبهه على أطراف المدينة تتكاثر البيوت دون إذن من القانون والزمن، يعيش من يشكلون ما يعرف بسوار الفقر على أمل أن تصبح أحياؤهم ذات يوم وسط المدينة، فالسوار يصنع هالة بؤس تتوسع كهالة القمر، تبهت كلما اتسعت، يحسد الجديد القديم على (تظبيط) أموره، فالغرفتان تنهضان بعد وقت وربما تلدان غرفة ثالثة، وربما يتزوج الأبناء ويسهمون في اتساع السوار الفقير ليصبح أكبر من المدينة، المدينة التي تعيش على امتصاص روح السوار بحجة القلب، هنا تنام من التعب.. الأحلام الكبيرة.
انهار منزل في مزة 86، وكانت الهوة بعمق 20 متراً، وسحب الجيران أصحاب البيت بالحبال، وفي كل عام ينهار بيت في قاسيون، ومنذ أعوام تداعى بناء من أربع طبقات في دف الشوك، وبناء في قدسيا، وآخر في ركن الدين.. والمسلسل الانهدامي يواصل ابتلاع البيوت التي حطت في المكان خبط عشواء.
بدورها القوانين الناظمة، القوانين التي تردع تسجل أرقاماً جديدة، والذين تكف أيديهم عن العمل يتزايدون، والمستفيدون من الخراب يتزايدون، والذين يثرون على حساب السوار ويعيشون في الوسط يتزايدون.. ومع ذلك فأحياء المخالفات تتسع لتشكل مدناً حول المدن.. و(أبو غدير) على مصطبته الباهتة يتحدث عن تاريخه في الوظيفة والدوران، عربة الفول، وأوراق اليانصيب، والأبناء الذين كبروا فجأة، أما الأحلام الكبيرة.. فتموت.