عن الفالنتاين والنيروز وبقية الأعياد السجينة...
يروى أحد تلامذة المتصوف الشهير أبي المغيث الحلاج الخبر التالي عن معلمه : «كنَّا بنهاوند مع الحلاج، وكان يوم النيروز، فسمعنا صوت البوق. فقال الحلاج: أي شيء هذا. فقلت: يوم النيروز. فتأوَّه وقال: متى نُنَورز؟ فقلت: متى تعني؟! قال: يوم أُصلَب. فلمَّا كان يوم صلبه بعد ثلاث عشرة سنة، نظر إليَّ من رأس الجذع وقال: يا أحمد نُورزنا. فقلت: أيها الشيخ هل أُتحفت. فقال: بلى، أُتحفتُ بالكشف و اليقين، وأنا مما أُتحفت به خجلٌ، غير أني تعجَّلت الفرح»
للخبر الكثير من الدلالات والمعاني، وهو كغيره من النصوص العظيمة، يعطينا فضاءً شاسعاًً للتأمل والتفكر، ويتيح لنا أن نقرأه قراءةً منفتحة، تمكِّننا من أن نستنبط منه أكثر الدلالات حضوراً في واقعنا الراهن (ولا توجد قراءة بريئة من الغرض على كل حال) فبالنسبة لمتصوف كبير كالحلاج، كان المعنى الحرفي لكلمة «النيروز» (اليوم الجديد باللغتين الفارسية والكردية) منطلقاً للوصول لأسمى أشكال الفهم لمعنى التجدد الذي يحمله العيد، فكما «تنورز» الأرض باستعادتها لربيعها في ذلك اليوم، وبذلك ينتهي عامٌ ويبتدئ عامٌ جديد، رأى الحلاج أن نورزه الحقيقي يكون بتمرد ذاته على كل قيود المألوف والمُعاش والسائد، ومن ثمَّ فنائها واتحادها بالمطلق، ، وبهذا يصل إلى قمة تحققه، ويشق للآخرين طريقاً للتجدد. وكان هذا الفهم الصوفي هو السلاح الفكري الذي خاض به الحلاج صراعه الاجتماعي والثقافي مع السلطة، لينتهي «مُنورزاً» على خشبة الصليب.
وبعيداً عن اللغة الصوفية، فإن معظم المنظومات الاجتماعية التي عرفها التاريخ، ومهما بلغت شدة أساليب ضبطها الاجتماعي، تترك لأفرادها فسحةً محدودة للتحرر والانعتاق من قواعدها وقيودها، هذه الفسحة تكون محصورةً بزمان ومكان معينيين، يتناسى فيهما الناس الكثير مما رُسخ فيهم من احترام والتزام بالقيم التي تحدد معايير «الواجب» و«الصحيح»، ويطلقون العنان لنفوسهم وأجسادهم للوصول إلى أقصى درجة ممكنة من التحرر والتمرد على القيود الاجتماعية ، بحيث يصبح الجنون والصخب والمتعة أسياداً للموقف، هكذا عرف التاريخ القديم والوسيط عدداً كبيراً من الأعياد والمناسبات والمهرجانات «المنحلَّة» من كل الضوابط، أشهرها أعياد الخصب والتجدد التي عرفتها معظم شعوب العالم، بما فيها شعوب منطقتنا. هذه الأعياد رغم كل تحررها الظاهر لاتخرج عن إشراف وإدارة السلطة، التي يمكن القول أنها علَّبت إندفاع وعنفوان من يخضعون لها، عن طريق حصرهما في أيام محددة، ينطفئان بعدها تماماً حتى موعد حلول العيد القادم، وهكذا تؤمِّن تلك الأعياد للسلطة قناةً آمنة لتصريف إندفاعات الأفراد، وتضمن لها «تجددهم» حتى يعودوا للخضوع والإلتزام مرةً أخرى، بعد ان يكونوا قد فرَّغوا كلَّ مكبوتاتهم بشكل جنوني لامنتظم. تلك هي شروط اللعبة، وكل من يحاول الخروج عليها يكون قد اختار لنفسه درباً شبيهاً بدرب «النورزة» الحلاجية!!
إلا أن تغييراً مهماً قد طرأ على تكتيكات السلطة منذ عصر الأنوار، حيث توقفت تلك الأعياد والمناسبات عن أن تكون مساحةً للتصريف البدائي للمكبوت، بعد أن تدخلت السلطة في طقوسها وممارساتها، لتفرض خطابها الخاص عن أعراف الأعياد، وطريقة عيشها والتمتع بها، صانعةً بذلك أذواقاً ومعايير جديدةً للناس، فاكتسبت تلك الاعياد طابعاً اجتماعياً منظماً يتفق مع متطلبات السلطة. ولعل عيد الحب (الفالنتاين) هو أهم مثال عن ذلك، حيث فقد هذا العيد انطلاقاً من عصر الأنوار طبيعته التي عُرف بها في القرون الوسطى، كإحياء لأعياد الخصب الوثنية، بكل بدائيتها، وجنسانيتها المنطلقة، وخروجها عن المألوف الإجتماعي، وأصبح مناسبةً روتينيةً لإرتداء أكثر الأقنعة زيفاً وابتذالاً، للتعبير عن شكل اجتماعي مصطنع لحب يتناسب مع متطلبات مجتمع برجوازي استهلاكي ومنافق.
وانطلاقاً من كل هذه المقدمات الطويلة (التي هي صلب الموضوع في الواقع) يمكننا الحديث عن العيدين المهمين اللذين يمرَّان علينا في هذه الأيام، أي الفالنتاين والنيروز، فالعيد الأول الذي جاءنا معلباً من الخارج، بات يدور في حلقةً مفرغة، بين سلطة بنياتنا الاجتماعية التقليدية التي ترفض أن يكون هناك عيدٌ للحب، وبين الفئات التي تمثل شكلاً مشوهاً للبرجوازية، وترى أن توطين هذا العيد المُسلَّع في بيئتنا المحلية يوفر لها فرصاً كبيرةً للربح... وبكل الأحوال، فإن معظم الأشكال التي يعيش بها عشاقنا هذا العيد، بالسر والعلن، لم تتمكن من أن تتطور لتشكِّل حالةً من التمرد والعصيان على قيود الضبط الاجتماعي التي نعيشها، بل أن هذه القيود قد فرضت شكلها البليد على كلِّ طقوس هذا العيد.
أما عيد النيروز الذي تحتفل به معظم شعوب منطقتنا بأشكال وتسميات مختلفة (وكان عيداً رسمياً في العصر العباسي)، فرغم كل ما يرتبط به من مفاهيم التجدد والتمرد والثورة، فإن القيود السياسية الكثيرة قد أرهقته وحولته إلى عيد فئوي مغلق، ولم تعد «النورزة» مفهوماً ثورياً، بقدر ما أصبحت مناسبةً للتأكيد على هويات قومية واجتماعية جامدة، وإعادة إنتاجها بشكل خال من الإبداع.
ربما كانت «السلطة حيلة التاريخ» كما يقول المفكر الفرنسي ميشل فوكو، ولكن يحقُّ لنا رغم ذلك، ونحن نعيش أعيادنا السجينة، أن نتساءل مع الحلاج: «متى نُنَورز؟».