جردة حساب لاحتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية 2009
شهدت بداية العام 2009 انتقالاً عاثراً لشعلة احتفالية عاصمة الثقافة العربية من دمشق إلى القدس بوصفها العاصمة لهذا العام. وكان وزراء الثقافة العرب قد أقروا خلال اجتماعهم في مسقط 2006 أنّ القدس عاصمة للثقافة العربية للعام 2009 بدلاً عن بغداد التي اعتذرت نتيجة سوء الوضع الأمني فيها، على أن تتقاسم الدول العربية فعاليات ونشاطات الاحتفالية، وتقام في جميع الدول العربية كما في القدس وسائر الأراضي الفلسطينية.
وبعد تأجيل قسري لثلاثة أشهر انطلقت مراسم الاحتفالية المكلومة أولاً لغياب الراحل الكبير محمود درويش الذي كان من المقرر أن يرأس المكتب التنفيذي للاحتفالية، ثم استقالة د. حنان عشراوي بعد فترة وجيزة من تعيينها لرئاسة المكتب التنفيذي، وثالثاً استقالة باسم مصري المفاجئة وغير المفهومة حتى الآن، بعد قرابة تسعة أشهر من توليه رئاسة المكتب التنفيذي، ليُترك الأمر لديوان الرئاسة ورئيسه وفيق الحسيني، وكأن الأمر مؤتمر صحفي أو ندوة يقيمها محمود عباس!!
كان لابد للوضع السياسي الفلسطيني، جدلياً، أن يرخي بثقله المنقسم والمتناحر على الاحتفالية، فكان هناك مكتبان تنفيذيان متعارضان سياسياً، واحد تابع لـ«مكتب الرئاسة» في رام الله، و آخر لـ«الحكومة المقالة» في غزة، وشعاران للاحتفالية وإن اشتركا بالخلل البنيوي الأساسي وهو كلمة القدس المكتوبة بالانكليزيةal-QUDS ، والتي لا ترد في أي قاموس غربي، ولا يتعرف عليها الكمبيوتر للدلالة على المدينة التي اسمها باللغة الانكليزية Jerusalem.
أما برنامج الاحتفالية فقد كان طموحاً جداً، لكن على الورق فقط. فقد اعتقد المنظمون من الجانبين، كلٌّ حسب أجندته وأهدافه، أن الندوات الثقافية باسم القدس على امتداد الوطن العربي تضع المدينة المقدسة مجدداً على جدول أعمال العرب والعالم. لأنهم كانوا يدركون جيداً أن سلطات الاحتلال ستمنع جميع الاحتفالات في المدينة. والحق أنه لم يكن من الصواب في شيء الاحتفاء داخل المدينة بقدر ما كان المطلوب تفعيل قضيتها، وبالتالي القضية الفلسطينية، ووضع الثقافة في خضم معركة الوجود، خصوصاً وأن المعركة ثقافية بالدرجة الأولى.
ودون دخول في احتساب الأخطاء الكثيرة، وهي الصفة التي اكتنفت عمل المؤسسات الرسمية والأهلية المشاركة في فعاليات الاحتفالية.. من غياب الخطة المدروسة الجدوى، إلى الارتجال وربما التجريب، إلى استثناء وتجاهل المئات من مثقفي وكتاب وفناني فلسطين نتيجة للمحاباة التنظيمية والحزبية. سنجد أن غالبية الفعاليات فيما يبدو تصطدم بالواقع السياسي العربي، وهو ما يحولها مهرجانات خطابية إنشائية توزع الاتهامات والجوائز، وتعيد ما حفظناه عبر سنين نكبتنا، من الإنشاء و الشعارات و التميع السياسي، وحتى التحلل الأخلاقي الذي رافق مأساة القدس، وهو ما يضاعف اجترار الحديث عن المدينة المقدسة، ويزيد إفساد الاحتفالية التي لا تضيف لها ولا لسكانها المصلوبين شيئاً. وهاهو العام يشرف على نهاياته، ولم نشهد بعد نشاطاً ثقافياً يليق بمكانة القدس في الثقافة العربية والإنسانية.
الاحتفاء (الإسرائيلي)
بالقدس عاصمة للثقافة:
كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة جعلت من مدينة القدس خط التماس الأول في معركتها مع الشعب الفلسطيني والعالم العربي والإسلامي، وإن كان مخطط تهويد القدس لا يبدأ منذ سقوطها الكلي في العام 1967 بل يعود إلى نهاية الحرب العالمية الأولى. فقد بنيت الجامعة العبرية بالقدس عام 1925م، ومستشفى «هداسا» عام 1939م.
وتواجه مدينة القدس ضمن سياق مخطط القدس الكبرى الإحلالي إجراءات عدوانية مستمرة امتدت لتطال الحجر والبشر, كإبعاد 25 ألف مقدسي من أراضيهم بفعل بناء الجدار العنصري، ومصادرة آلاف الدونمات الزراعية، وتوسيع وزيادة عدد قاطني المستوطنات الـ29 في القدس، وتقييد التمدد العمراني العربي فيها، وممارسة سياسة العزل والترهيب للمقدسيين عبر تهديد التجمعات العربية بالإزالة، واحتلال البيوت بالقوة والذرائع الواهية، ودعم اعتداءات المستوطنين وإمدادهم بالسلاح، وجعل شعور فقدان الهوية لدى المقدسيين هو الحاضر في المقام الأول داخل المدينة. بالإضافة لإغراق الأحياء العربية بالمخدرات لتدمير الشباب. وإغلاق أكثر من 50 مؤسسة ثقافية، والاستيلاء على الأوقاف المسيحية والإسلامية لطمس معالم المدينة.
وفي الأمس القريب أقرت الحكومة الإسرائيلية في موازنتها العام القادم 1,5 مليار دولار لإحاطة المدينة بكتل استيطانية تتصل مع المستوطنات الكبرى بشبكة طرق تحتضنها بنية تحتية ضخمة تسهم بإخراج القدس من دائرة الحل عبر فرض وقائع لا يمكن تغيرها على الأرض. وآخر الاحتفاءات ما كشفت عنه صحيفة «هآرتس» بأن سلطات الاحتلال تنفذ، بوتيرة متصاعدة، عمليات سحب هويات المقدسيين التي بلغت خلال عام 2009 فقط 4577 هوية مقدسي وهو الرقم الأعلى منذ احتلال المدينة.
الدولة العبرية التي أعلنت ضم القدس الشرقية سنة 1980 بعد أن كانت قد احتلتها في 1967، ما زالت ترفض الاعتراف بـ19 قراراً دولياً يعتبر القدس أرضاً محتلة. وقد فرض الإسرائيليون بقرار صدر عن الكنيست في أواخر 2007 عدم التنازل عن القدس الشرقية في أي حل تتوصل له حكوماتهم، إلا إذا حصل على غالبية ثلثي أعضاء الكنيست.
القدس معركة ثقافية حضارية وتاريخية وسياسية وإعلامية:
هكذا تتعدد مخططات تهويد القدس وتتزايد خطورة ما يجري على أرضها الآن وأكثر من أي وقت مضى, بينما نحن كأمة نمارس احتفالات تقليدية بالقدس عاصمة للثقافة العربية في إطار فهم ناقص ومبتور, احتفالات أجهزة ثقافية مصحوبة بالبهرجة الإعلامية, بينما المسؤولية الحقيقية تقع على جموع المثقفين والمؤرخين والجغرافيين والقانونيين والعلماء..
ينتهي عام الاحتفالية ولا تنتهي قضية القدس بانتهائه. وما حدث من ركود إبداعي في برامج الاحتفالية يعبر عن حالة ضعف مريرة في الثقافة العربية عموماً. الاحتفالية فشلت في استغلال هذه المناسبة لإخراج التظاهرة من البوتقة العربية حتى يمكن تأمين اهتمام دولي بالمناسبة ممكن أن ننتقل فيه من الثقافي إلى السياسي وطرح القضية ببعدها الحقيقي والعميق؟ فهل نحن مقتنعون بأن ما قدمناه من عمل للقدس يكافئ حجم العدوان عليها ويقدر على صده في الوجدان على أضعف الإيمان؟ وهل يكافئ إمكاناتنا الضخمة ثقافياً وإعلامياً وبشرياً؟
القدس فاتحةٌ لجبهة المعركة الثقافية مع النقيض، مع الهزيمة والتطبيع والتفريط بالحقوق والثوابت، وتحتاج لانطلاقة احتفالية جديدة، وعمل جاد ودؤوب من أهل الثقافة يسد غياب أهل السياسة الذين لم يتمكنوا من تحقيق وحدة موقف قوية ضد سياسة التهويد، والعمل الثقافي يمتلك من حرية الحركة ما يؤهله لتقديم بدائل ليست قليلة الأهمية.