فن صناعة الضحية
هل يفيد الضحية أن يكرر على مسامعها دوماً بأنها ضحية؟ هل يساعدها أن ُتذكر دوماً بحجم الألم والظلم الذي تعرضت له وبلحظات الضعف التي حولتها ضحيةً؟ أم أن ذك يجعلها حبيسة دائرة لا تنتهي من مشاعر الرثاء للذات والوهن؟
هي أسئلةٌ تستدعيها في أذهاننا وسائل الإعلام وما تنقله من صور وعبارات، أو مداخلات لبعض النشطاء السياسيين على القنوات الفضائية وصفحات التواصل الاجتماعي التي تذكر السوريين وطوال ما يزيد عن سنة ونصف كم هم ضعفاء، متعبون، مظلومون..
ركز الخطاب الإعلامي كثيراً على استعارة (الجلّاد/الضحيّة) كمعادلة لاختصار الأطراف الفاعلة في الحدث السوري، كما ركز أيضاَ على صور الضحايا من القتلى والجرحى -وتحديداً الأطفال- بحيث يشعر المرء بأن صورة الضحية تحاصره أينما ذهب وكيفما تحرك: ضحايا قتل واعتقال وتهجير وتفجيرات وضحايا صمت.
اسُتخدم ألم الناس وصور الشهداء وحطام المدن طوال الوقت لحشد الرأي العام وتوجيهه، فالضحايا يثيرون التعاطف والشفقة أكثر بكثير من صورة مؤتمرِ أو ناطق رسمي. وفي السياق ذاته أسس التلفاز السوري لخطاب مماثل عن وقوع الشعب السوري بأكمله «ضحيةً للمؤامراة»، كي يكرس حالة الخوف والتوتر والضعف التي تنتاب الضحية العاجزة مسلوبةً الإرادة عادةً.
إذاً ربما اختلفت مقاصد وسائل الإعلام ورسائلها، إلا أن النتيجة كانت اعترافٌ من كل الأطراف بأننا ضحايا، واختلافٌ بتسمية الجلاد. لكن هل نحن ضحايا حقاً؟ وإن كنا كذلك، أي نوع من الضحايا نحن؟
إن تكريس ذهنية الضحية هو انكارٌ صارخ، لبعض الحقائق الأساسية في الحالة السورية؛ أولها الاعتراف بأن الحركة الشعبية جاءت رفضاً للواقع القديم وكسراً لحلقة الشعور بالظلم والاكتفاء بالرثاء للذات، وهو الأمر الذي أعاد العديد من فئات الشعب لنطاق الفاعلية والتأثير وفرض الواقع الجديد، وهو ما ترفض الاعتراف به وسائل الإعلام الرسمية حتى هذه اللحظة، لأنها تفضل التعامل مع المواطنين السوريين كأفراد مغرر بهم، بدلاً من شعب قوي قادر على التأثير في مسير حياته، والمطالبة بحقوقه.
كذلك تستهدف تكريس صورة الضحية في وسائل الإعلام الخارجية الإبقاء حالة الرثاء للذات، ومنع السوريين من تأمل تفاصيل الواقع الذي يعيشونه اليوم بكل جوانبه، وإبعاد بعض السياسيين والمثقفين وقادة الرأي- إلى جانب بعض الفئات الأخرى في المجتمع- عن الاعتراف بمسؤوليتهم عن الانحرافات والأخطاء التي ارتكبت، أو دورهم في تبني بعض الاتجاهات القرارات التي ساهمت في تأجيج الصراع وزيادة عدد الضحايا.
لا يمكن إنكار أن نقل معاناة الشعوب وتصوير مآسيها جزءٌ من وظائف الإعلام الأساسية في نقل الحقائق، إلا أن ما تفعله وسائل الإعلام اليوم لا يمكن أن يوضع تحت مسمى «الاستجابة لوظائف الإعلام في المجتمع» والتي يندرج تحتها أيضاً دور الإعلام في التأثير بوعي الجمهور ومساعدته في تكوين صورة موضوعية عقلانية عن الواقع، إلى جانب رفع المعنويات بالتركيز على الجوانب المضيئة دون ربط الشعب بالآمال الكاذبة والوعود المستحيلة. لكن استمرار وسائل الإعلام المختلفة في خطابها الرثائي يجعل المشاهد يشك في رغبتها بأن تتوقف حالة العنف في سورية، لأنها ستضطر حينها لاستبدال الصور الساخنة التي تبثها الآن بأخرى لمَشاهد من حياة طبيعية مملة وهادئة.
انقر هنا لـ رد أو إعادة توجيه