السير الشعبية.. «أزمة واقع»!
يحمل «أدب الفتوة» على الحكام الجائرين والأغنياء والموسورين، ويطرق هذا النوع من الأدب الذي قرظه الجاحظ (لما ينطوي عليه من فضائل ندر وجودها في الأدب الرسمي)، موضوعات عديدة تتعلق بالوجدان الجمعي والعلاقات الاجتماعية والمثل الروحية والمشكلات النفسية، بحيث اعتبره بعض الدارسين «منظماً لحياة الجماعة ودرعاً حامياً لها من التخلخل».
وقد كانت «الحكايات الشعبية» قصصاً ملحمية نسجها الوجدان الشعبي، وجرى تداولها جيلاً بعد جيل عن طريق الرواية الشفاهية. فكان من أشهرها حكايات «ألف ليلة وليلة» التي حوت قصصاً ذات بُعد إنساني واجتماعي ولها مقاصد سياسية. أما «السير الشعبية» فهي قصص ملحمية في الغالب، تتراوح بين النثر والشعر، وتدور حول البطولات والفروسية، بحيث امتزجت فيها الحقيقة بالخيال. منها «سيرة عنترة» والسير التي تتحدث عن صعاليك العرب، وقد جرى إحياؤها في عصور لاحقة حينما تعرضت فيها البلاد لبطش وجور الحكام، إلى جانب الأخطار الخارجية كالصليبيين والمغول، وكانت تطغى على غالبيتها فكرة البحث عن «البطل» الذي يمكن أن يساعد في إنقاذ الناس والبلاد من الأحوال التي تردت إليها.
كما عبرت «سيرة بني هلال» عن التمزق من جراء الصراعات والحروب التي أفضت الى الخراب والدمار، وهي تاريخ لبطل ومجموعة، وأدب يظهر أحوال العامة وثقافتها وذائقتها الفنية ومواقفها من الحياة. وغايتها التأثير في المتلقين وإمتاعهم، وليس إخبارهم بوقائع تاريخية. وروت السيرة الهلالية مراحل تغريبة
بني هلال وانتقالهم من نجد في الجزيرة العربية إلى صعيد مصر، ومنه إلى بلدان
شماليّ إفريقيا، وحوادث هذا الانتقال ووقائع الحروب بين الهلاليين ومن دخل معهم
إلى بلاد المغرب ومن كان في هذه البلاد من قبائل.
أما «سيرة الظاهر بيبرس» التي تختلط فيها الأزمنة والأمكنة، لتتقدم السيرة عبر الزمان والمكان، تضيف إليها الأجيال من قرائحها ما تفرزه طبيعة مجتمعاتها، معبرة في النهاية عن «أزمة واقع» فهي تفسير شعبي ووصف خيالي خصب لأحداث تاريخية هامة، وتظهر فيها بعض الشخصيات التاريخية المعروفة بأسماء وكنايات من وحي الخيال.
وعبرت «سيرة الأميرة ذات الهمة» عن بروز دور المرأة كبطلة أناط بها العوام مهمات ذات طابع سياسي. أما عن «سيرة حمزة العرب» فقد استوعبت بطولات «الشطار والعيارين» في العراق، والحقيقة أن حركات العيارين والشطار هذه كانت وليدة الفساد السياسي والتدهور الاقتصادي الذي تعرضت له البلاد، وأخبار العيَّارين من الحكايات الشَّائعة في الأدب العربي، والعيَّارُ لغةً: الَّذي يُكْثِرُ التجوال والطواف وهم فئةٌ من الفقراء المُعْدَمِين الَّذين خرجوا عن قوانين المجتمع لِمَا أصابَهم من الظُّلم والعطل عن العمل، وطحنَهُمُ الفقرُ فأغاروا على الأغنياء وسلبوهم أموالَهُم، وقد يدفعون ما يسلبونه إلى غيرهم من ذوي العجز والفاقة، وتعدُّ في العيَّارين فئـات أخرى لا تختلف عنهم كثيراً من حيث السُّلوك، كالشُّطَّار وهم اللصوص الذين يحتالون بدهائهم لنيل ما يريدون. فقد عبرت «سيرة على الزيبق» عن وحدة حركة العيارين والشطار، وخصوصاً بين العيارين في العراق والحرافيش بمصر، وقد حَظِيَتْ هذه الفئات بإعجاب بعض المغلوبين والمستضعفين في المجتمع، روتها كثير من الروايات الأدبيَّة التاريخيَّة، من ذلك مثلاً ما رواه الأبشيهي صاحب «المُسْتَطْرَف من كلِّ فنٍّ مُسْتَظْرَف» من أنَّ عمر بن عُبيد مرَّ بجماعةٍ وقوفٍ، فقال: ما هذا؟ قيل: السُّلطانُ يقطعُ سارقاً، فقال: «لا إله إلا الله، سارقُ العَلانِيَةِ يقطعُ سارقَ السِّرِّ!».
وقد أجمع الباحثون على أن السير والملاحم الشعبية تعد تاريخاً شفاهياً في مواجهة التاريخ الرسمي والمكتوب، وأنها لذلك أكثر صدقاً وبراءة لأنها في التحليل الأخير نتاج وجدان الشعوب، وليست نسيج عقول مؤرخي «البلاط».