«رجال الاستحواذ».. في هيئة شايلوك

«رجال الاستحواذ».. في هيئة شايلوك

يندرج فيلم «Repo men» رجال الاستحواذ أو المُستِردون، وهو إنتاج أمريكي كندي للمخرج ميغيل سابوشنيك، ضمن سينما «الخيال العلمي» التي تعتمد طابع التشويق والغرائبية، مقدماً رؤية مأساوية لمستقبل البشرية، حيث  تقوم إحدى الشركات التي تصنع أعضاء بشرية إلكترونية وتعرضها للبيع أمام من يحتاجها مقابل مبالغ طائلة، بتوظيف فرق خاصة لاستعادة الأعضاء في حال تخلف الزبائن المستفيدين عن أداء رسم «إيجار» العضو الصناعي. 

تنص قوانين الشركة، بأنه إن لم يتمكن الزبون من دفع المبلغ  كاملاً، فسيتم استرجاع هذا العضو بواسطة شخص يدعى Repo Man، ينتزع العضو عبر قتل صاحبه، وفتح جسده، ومن ثم غسل الجهاز الإلكتروني، وتغليفه وإعادته إلى الشركة، تاركاً الزبون يسبح ميتاً في بحر من الدم.

يقوم الصديقان ريمي وجاك، بطلا الفيلم (أدى دورهما الممثلين البريطاني جود لو، والأمريكي فوريست ويتيكير) بتنفيذ هذه المهمة للشركة واسترداد الأعضاء البشرية التي يعجز حاملوها عن تسديد باقي أقساطها، دون مراعاة لأية عواطف أو شعور إنساني، فيقومان ببتر الأعضاء المطلوب استعادتها وترك الأشخاص للموت دون رحمة.

يحاول الفيلم أن يرسم صورة لحالة الانحدار الأخلاقي للرأسمالية وشرورها التي وصلت  إلى درجة تصبح مهمة «نزع الحياة» من الأبرياء عملاً كسائر الأعمال اليومية،  ويقدم من خلال شخصية البطلين «ريمي وجاك» صورة عبثية لعمل همجي يصبح في قانون السوق شيئاً عادياً أقرب إلى استخلاص ضرائب النظافة أو رسوم الكهرباء.

تدور نزاعات بين «ريمي» وزوجته، حول طبيعة العمل الذي يقوم به، فتطالبه الزوجة بالتوقف عنه، ولكنه يرفض، إلى أن يتأذى في أحدى المرات بحادث يفيق منه ليجد نفسه وقد زُرع بداخله قلب صناعي  وأصبح مديناً بثمن باهظ للشركة مقابل هذا القلب. وعند عجزه عن السداد يجد نفسه مطارداً من صديق عمره جاك الذي يسعى لاسترداد القلب الصناعي الذي ينبض بداخله، فتتضح له فكرة الشركة القائمة على الجشع، والنصب، والاحتيال على الفقراء والمحتاجين إلى أدنى أمل للتمسك بالحياة.

 

يذكرنا هذا الفيلم بمسرحية «تاجر البندقية»، إحدى أشهر مسرحيات الكاتب الإنكليزي ويليام شكسبير، والتي حظيت باهتمام ودراسة مستمرة من النقاد العالميين، ومعاداة من قبل المنظمات الصهيونية بسبب شخصية المرابي اليهودي «شايلوك» الذي يوقع بتاجر شاب من إيطاليا يدعى أنطونيو، ينتظر مراكبه لتأتيه بالمال، لكنه يحتاج للمال قبل وصول سفنه من أجل صديقه بسانيو، فيقع تحت رحمة التاجر اليهودي الجشع  ويضطر للاقتراض منه.

يذهب الصديقان إلى شايلوك ويطلب أنطونيو منه أن يقرضه مبلغ ثلاثة آلاف من الجنيهات بأية نسبة فائدة يطلبها، مع وعد بأن يرد إليه القرض وفوائده عند وصول السفن في موعد قريب، فيوافق شايلوك أن يقرضه المال بشرط أن يوقع الصديقان على عقد يتيح لشايلوك أن يقطع رطلاً من اللحم ومن أي جزء يختاره من جسد أنطونيو إذا ما عجز الأخير عن رد الديون في الموعد المحدد، إضافة إلى خيوط أخرى تتحدث فيها المسرحية عن الحب والثروة، والعزلة، والرغبة في الانتقام.

تعكس صورة شايلوك وطريقة استرداد الديون العقلية التي تحكم رأس المال المالي ولعلها لا تختلف عن الصورة المعاصرة له، حيث لم يعد رأس المال ممثلاً بأشخاص وإنما كشركات عابرة للقارات والحدود.

في فيلم «Repo men» تتحكم شركة استعادة الأعضاء البشرية بالأمور في «المدينة»، من خلال فرق الموت التي وظفتها لاستعادة الأعضاء بطرق دموية واستخدام السكاكين والأسلحة النارية وغيرها في مشاهد تذكرنا اليوم بالفظائع التي ترتكبها الأذرع الفاشية في المنطقة.

فالفيلم يحكي عن عصر ما في المستقبل، يقوم فيه المتحكمون بالأمور «الشركات الكبيرة» باستعادة الديون التي تسببوا بها للناس بطرق جديدة، طرق لا تشبه تلك التي نعرفها اليوم حيث تقوم البنوك بالاستيلاء على بيوت الناس وأعمالهم ورميهم في الشارع، في عصر يصبح فيه حتى بيع الأعضاء البشرية قانونياً!

تشكل تجارة الأعضاء البشرية أحد أعمدة الاقتصاد الأسود، وهذا ما تؤكده وسائل الإعلام عبر تقاريرها المختلفة، خاصة في البلدان التي تعاني الأزمات كسورية وليبيا وأوكرانيا.. الخ، ورغم الغموض الذي يكتنف هذه القضية وغياب الإحصائيات الحقيقية عن ذلك، لكنها أصبحت ميداناً آخر من ميادين نشاط الفاشية الجديدة اليوم في العالم. وعبر هذا النشاط تسيطر المافيات على أجساد الفقراء في زمن تحول فيه كل شيء إلى سلعة.

تعود مسرحية تاجر البندقية إلى القرن السادس عشر، ومع ذلك استطاع  شكسبير قراءة ما كان يدور في عصره والتعبير عنه، من خلال شخصية التاجر والمرابي اليهودي «شايلوك»، ويعود فيلم «Repo men» إلى ما قبل ست سنوات ((إنتاج 2010))، وقد اعتادت هوليود على تحضير أذهان الناس بشكل مبكر لما سيجري لاحقاً، حيث فاق ما شاهده العالم من ممارسات قامت بها التنظيمات الفاشية في سورية والعراق وليبيا وأوكرانيا كل تصور، ومازالت تجارة الأعضاء البشرية تنهش بأجساد اللاجئين السوريين بين تركيا واليونان وبلدان أخرى خلال رحلات التهريب إلى أوروبا عبر سماسرة ووسطاء حولوا الناس إلى حطب من أجل تحقيق بعض المكاسب والأرباح.