«إيقاعات مشتركة..»

«إيقاعات مشتركة..»

التراث الشعبي بأنواعه وألوانه المتعددة، سفرٌ مهمٌ من أسفار الشعوب، يحمل في طياته تاريخها الغني وأرثها المتنوع، مما يجعل لقراءته قراءة موضوعية ضمن السياق التاريخي الذي أنتجه، ودراسته وتوثيقه أهمية كبيرة لفهمه والاستفادة منه في اكتشاف حركة المجتمعات وتطورها، والمحافظة على أفضل ما فيها، بما يفيد في استكمال بناء الهوية الوطنية وتعزيزها.

 

تعتبر الموسيقى والغناء من أشكال التعبير عند الشعوب عن واقعها ومعاناتها، آلامها وأفراحها، يجري تناقله عبر الأجيال بسهولة وسرعة أكثر من غيره، بعيداً نسبياً عن القوى والسلطة المهيمنة التي غالباً ما تفرض أشكالاً تتوافق مع مصالحها من موسيقى وأغانٍ تروج لفترة كالفقاعة، ثم تختفي بعد فترة قصيرة من الزمن، بينما يستمر التراث الموسيقي والغناء الشعبي لعشرات ومئات السنين لأنه يحمل عناصر استمراريته في داخله، ولعل أبرزها هو ارتباطه المباشر بحياة الناس في جوانبها المختلفة وتعبيره عنها.

قصص قصيرة بألحان شجية

يعتمد الغناء الشعبي على الكلمات والألحان البسيطة والقصيرة، فالكلمات في غالبيتها من مجزوء أبحر الشعر، وتحمل صوراً فنية مستوحاة من البيئة والحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية كـ(ظروف العمل من الحصاد والقطاف والبناء، والحب والفراق والحنين.. الخ) إضافة إلى المآسي التي يتعرض لها البشر سواء من الطبيعة، أو من الظلم والقهر والاستبداد الواقع عليهم، ويغلب عليها طابع الحزن كـ«المناحات الجماعية»، وحتى في غناء الأفراح، وتبدو أحياناً كأنها حكايات وقصص قصيرة،  تؤرخ للناس والبيئة. 

كما لا تتعدى الألحان في الغالب جملة أو جملتين أو ثلاث من الجمل الموسيقية، يجري تردديها، وتتميز كما غالبية الموسيقى الشرقية بأنها شجية ومتنوعة، وذلك يعود لتعدد المقامات الموسيقية الشرقية والتفريعات عنها التي تسمى(أطواراً) أبدعها المغنون بطريقة أدائهم مما منحها الخصوصية والتفرد، ويعود ذلك أيضاً لوجود ربع العلامة الموسيقية في المقامات الموسيقية التي تمنح الألحان شجوها ودفؤها. أمّا الإيقاعات الموسيقية فتلعب البيئة دوراً كبيراً فيها، فتتمايز في المناطق الجبلية عن السهول والبادية. 

الغِنى والوحدة!

يتميز الغناء الشعبي في سورية بالغنى والتنوع، بسبب موقعها وعدم وجود حواجز طبيعية بينها، وتاريخياً لم تكن هناك حدوداً سياسية قبل الاستعمار الحديث، بل كانت العلاقات مفتوحة مع الجوار، لذا تتقارب المنطقة الجنوبية مثلاً مع الأردن وفلسطين وشمال الجزيرة العربية في أرثها الغنائي، والمنطقة الساحلية والوسطى مع لبنان، والمنطقة الشرقية مع العراق، والشمالية مع تركية، والشمالية الشرقية تتواصل مع العراق وتركيا، ولعب تعاقب الحضارات وتلاقحها دوراً مهماً في تثبيت ذلك، إضافة لتنوع البيئات والشرائح الاجتماعية السورية. 

ورغم الغنى والتنوع، إلا أنّ هناك ترابطاً واضحاً في ألوان الموسيقى وأنواع الغناء وأدواته، وإن جرى تأديتها بطرق مختلفة، فعندما تغنى الأغاني الجبلية يهتز طرباً ابن الساحل والسهل والبادية، وإن سمع العربي ألحاناً وغناءً كردياً أو آشورياً أو فارسياً، تفيض مشاعره حتى لو لم يفهم الكلمات، وأكثر ما ينعكس ذلك في الدبكات الشعبية المرتبطة بالأغاني والإيقاعات، والتي يغلب عليها المشاركة الجماعية فكثيرون يعرفون «شفان» كما يعرفون «ناظم الغزالي». ويؤدى الغناء الجبلي في الساحل أو القلمون أو جبل العرب مع إيقاع الطبل ويرافقه المجوز، بينما لدى السوريين الكرد يرافقه البزق، ولدى الآشوريين (الجمبش) وفي سهول الداخل الطبل والمجوز، وفي سهل الفرات الدف والناي  أو (الشاخولة)! 

«النداء والصدى..»!

يتميز الغناء الشعبي الجبلي بقوة النبرة كنداء ينتقل صداه بين الجبال والوديان، وهذا يتجسد في أغاني الموليه التي أدت بعضها فيروز مثلاً بطريقة إبداعية: 

هيهات يا بو الزلف         عيني يا موليه...

بينما الألحان والإيقاعات السريعة والراقصة مع الطبل والمجوز، وتتجسد في أغاني اللالا التي ترافقها الدبكات الفردية والجماعية.

أما العتابا فهي عبارة عن شكوى كقصة البدوي عبدالله الفاضل المعروفة، أو مناجاة ومحاورة غنائية تتميز أحياناً بالهدوء والمعاتبة، وأحياناً أخرى بالتحدي بين مؤديين يتنافسان على محبوبة!

الانسياب.. والانفتاح

يتأثر الغناء الشعبي في السهول والبادية بالطبيعة الممتدة دون حواجز، وظروف العمل، فتتميز بالألحان والإيقاعات الهادئة للون ذاته، فالمولية الفراتية تنساب كانسياب مياه الفرات وامتدادها في السهل، والبادية المنفتحة وكأنه لا حدود حتى بين الأرض والسماء، فتؤدى لكن مع استبدال إيقاع الطبل بالدف وتغيير الكلمات.

أمّا العتابا فهي مشتركة بين ريف حماة وحمص مع وادي الفرات وسهول الجزيرة لانفتاحها الجغرافي وتنقل البدو الرحل بين هذه المناطق ووصولهم إلى غرب العراق حتى الخليج، وغالباً ما تعبر عن الفخر. 

أمّا أغاني العمل كالحصاد والبناء فتتميز بالحماس والقوة والسرعة والرتم الواحد وأقرب إلى الحداء والهوسات، لأن الحركة ذاتها متكررة وذلك للتحفيز، وهي متقاربة في سهول حوران والغاب والفرات.

حاصود ماني حاصود       جِيت أخُمْ الكَارايا

بايد أحصُد وبايد ألْكُط    وبايد أحيي الصبايا

أخم الكرايا: أشاهد القرى.  ألكط: ألقط الثمار وأقطف القطن.

أما الهدي الذي كانت تتغنى به الأمهات لأطفالهن فهو كثير، وسأذكر واحدة تكاد تنقرض ولا يعرفها الكثيرون: نامِي يا انْوَيِمَه   نوم الحْمَيِمَه. تصغير الحمامة.

الأغاني الشعبية في المدن

تختلف الأغاني الشعبية في المدن بألحانها وإيقاعاتها وكلماتها عن الجبال والسهول، وتتميز بالتنوع في الأغنية الواحدة، ولعل من أبرزها الموشحات والقدود الحلبية، والقدود الحمصية التي يجهلها الكثيرون، أما أغاني دمشق فتناولت البيئة الشامية والطبيعة مثل أغنية ع الصالحية، وطيري طيري يا حمامة، وغيرها..

ربما يصعب تناول الموسيقى والغناء الشعبي وأدواته، والكلام عنها وتحليلها كتابياً فقط، لأنها تحتاج إلى مجلدات، وتحتاج أيضاً إلى توثيق سمعي بصري يوضحها أكثر ويعمق المعرفة بها، ولا شكّ أنّ هناك أنواعاً كثيرة أخرى من الغناء الشعبي، قسماً منها ما زال متداولاً، وقسماً منها انقرض، وقسماً أوشك، وقسماً طاله التحريف، بسبب غَزو النمط الاستهلاكي في الحياة والثقافة عموماً والتراث الشعبي خصوصاً، وكذلك استخدام الآلات الموسيقية والإيقاعات الغربية، لكن يبقى للتراث نكهته التي تحمل عبق الأرض والتاريخ والمعبرة عن الإنسان.