روح عظيمة في إهاب شحاذ
في كتاب مارك كيرلانسكي الملحمي: «تاريخ الملح في العالم» والذي حمل العنوان الفرعي التالي: «الإمبراطوريات، المعتقدات، ثورات الشعوب، والاقتصاد العالمي» يصل في بحثه إلى ثورة الملح التي قادها المهاتما غاندي في الهند ضد بريطانيا العظمى التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها تلك الأيام. فقد ذُهل الكثير من أعضاء حزب المؤتمر الهندي -بمن فيهم بعض المقربين من غاندي- عندما اقترح أن تتركز حركة الاستقلال الهند حول الملح. وقد بيَّن غاندي أن تلك المادة تُعطي مثالاً قوياً عن سوء الحكم البريطاني في موضوع يُلامس حياة الشرائح الاجتماعية في الهند كلها. ونبَّه إلى أن الكل يأكل الملح.
المسيرة الكبرى
في 2 مارس 1930 كتب المهاتما غاندي مخاطباً اللورد إيرون، مندوب التاج البريطاني في الهند بشأن ثورة الملح التي أجج الحفاة نيرانها في دروب الهند المتربة : «إن لم تكن عارفاً بتلك الشرور، فإن رسالتي لن تصل إلى قلبك. ولذا في الثاني عشر من الشهر الجاري سأبدأ في تجاهل قوانين الملح الاحتكارية. وسأبدأ من معتزل مع مجموعة من المعاونين. أعتقد أن تلك الضريبة الجائرة على الملح تمثل أقسى عبء على الفقير. وبما أن حركة الاستقلال مهمة بالنسبة إلى الأفقر في البلاد، لذا سأبدأ من هذا الشر. ومن العجيب أننا استسلمنا لهذا الاحتكار اللئيم لوقت طويل». وفي 12 مارس 1930 خرج غاندي و 78 من معاونيه من معتزلهم، واعتزموا بدء مسيرة على الأقدام لمسافة 520 كيلو متراً للوصول إلى شاطئ البحر، حيث سيواجهون القانون البريطاني، ويستخرجون الملح. انضم إلى المسيرة نفر قليل ممن لم يكن في المعتزل، وخصوصاً اثنين من المسلمين ومسيحياً ورجلين من المنبوذين الذين يحرم الهندوس لمسهم. حرص غاندي على أن تمثل المجموعة الهند كلها. ساروا ببطء في شوارع متربة وقطعوا 26 كيلو متراً في اليوم تحت سماء تنز حرارة. وفي المقدمة سار عجوز في الثانية والستين ضامر الجسم متوكئاً على عصاه. وقاد غاندي المسيرة بثقة وتصميم، وأنهك البعض، وتقرحت أقدام آخرين، فعولجوا في عربات، وخُصّص حصان لغاندي، ولكنه لم يمتطه أبداً. وكتب غاندي: «بالنسبة إليَّ، وصلت الأمور إلى نقطة اللاعودة سواء كنت وحدي أو رافقتني الآلاف».
في ضوء القمر
كانت المسيرة تواصل انطلاقها في السادسة والنصف صباحاً من كل يوم. وكان غاندي يستيقظ قبل ذلك بساعات، ليغزل الملابس ويكتب الخطب والمقالات، وشوهد يكتب الرسائل في ضوء القمر. وتوقف ليتحدث إلى الفلاحين، الذين تجمعوا بشغف ليروا المهاتما، وطلب منهم الانضمام إليه في كسر احتكار بريطانيا للملح. خلال المسيرة أظهر المسؤولون المحليون تأييدهم له باستقالتهم من مناصبهم، وتفهَّمته الصحف الهندية الناطقة بالإنكليزية. وفي المقابل، أولى الإعلام العالمي اهتماماً هائلاً لسير العجوز الضئيل الحجم في مواجهة الإمبراطورية البريطانية كلها. وفي 5 أبريل، بعد 25 يوماً من المشي، وصل غاندي إلى ساحل البحر في صحبة آلاف الناس. لقد صاحبته نخبة من المثقفين، وفقراء ونساء، بمن فيهم نسوة من أثرياء الأسر في المدن الهندية. وخلال الليل ترأس غاندي صلاة على وقع أمواج بحر العرب. ومع خيوط الفجر الأولى قاد مجموعة إلى البحر للتطهر، ثم خرج وسار برجلين مستدقتين إلى حيث تراكمت قشرة من الملح، تكونت بأثر التبخير بأشعة الشمس، ثم انحنى، والتقط قبضة من تلك القشرة، وكسر قانون الحظر البريطاني.
غاندي تحت الشجرة
بعد أسبوع من وصوله إلى ساحل البحر ، صارت حركة غاندي وطنية شاملة. انتشرت تظاهرات صنع الملح في كل مكان، وبيع الملح علناً في الشوارع، وردت الشرطة بإطلاق الرصاص. وفي بومبي طوق مئات الناس بالحبال وسيقوا إلى السجن، بعد اكتشاف الشرطة أن الملح بات يُصنع على أسطح مقار حزب المؤتمر. شارك الأساتذة والطلاب والفلاحون في صنع الملح، وبدا أن معظم الهند تشارك فيه. غطت الصحف الغربية الحملة، وتعاطف العالم معها، وصارت «قبعات غاندي» البيض موضة في أمريكا، فيما كان غاندي حاسر الرأس! أرسل غاندي رسالة إلى اللورد إيرون يحتج فيها على عنف الشرطة. ثم أعلن أنه سينظم مسيرات إلى ورش الملح الحكومية، ليستولي عليها باسم الشعب. وأرسلت وحدات من الجيش البريطاني، وانقضت على القائد في أثناء نومه تحت شجرة واعتقلته. وتفجرت الهند غضباً، وجلس غاندي في سجنه يغزل القطن، وأعلنت الحكومة عدم شرعية لجان حزب المؤتمر، واستمرت حركة الملح. وفي 5 مارس 1931 وقعت معاهدة «غاندي-إيرون» التي أنهت احتكار الملح. لقد خرج غاندي من المواجهة باعتباره الصوت الحر المعبر عن الآمال الهندية، وصار حزب المؤتمر الهندي التنظيم الرئيسي في حركة استقلال الهند. وفي العام 1947 نالت الهند استقلالها، واغتيل غاندي بعدها بخمسة أشهر.