ديمقراطية تراثية فذّة.. وسلاطين ميكافيليين حتى القتل
«أيها الناس: إنما أنا سلطان الله في أرضه».
أبو المنصور/ الخليفة العباسي
«كلّ سلطة مفسدة والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة..»
لورد أكتون
مؤسس الدولة/ الخلافة الأموي ورجلها الأول، (الميكافيلي) بامتياز على صعيد الحكم وعلى الصعيد الشخصي، المرن واللين ظاهرياً، الحازم والحاكم والقاطع باطنياً. السياسي المنحل الذي أسس (ملكه) باقتدار ودهاء ومعرفة ودراية.. وكان الاحتكام إلى السيف ناموسه، و(إن لله جنود من عسل) من مفردات (سلطته) الجوهرية... معاوية بن أبي سفيان عندما أراد، على ذمة الرواة، أن يأخذ البيعة لابنه يزيد (لا نجد ضرورة، ها هنا، إلى أي تفصيل وتقديم، أو توضيح وكلام عن يزيد بن معاوية، فالرواة وكتاب التاريخ قديماً وحديثاً، لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة تتعلق به إلا ودونوها في بطون الكتب وحواشيها عبر (ديمقراطية تراثية عربية فذة) دعا زعماء القبائل، وطلب منهم التأييد وإعلان البيعة.. فراح كل واحد منهم يلقي خطبته، ثم ينهيها بتأييده وإعلان بيعته..
ولما وصل الدور إلى زعيم قبيلة مغرقة في البداوة.. وقف هذا الأخير، وحدق في الجموع و الحشود، ثم قال بصوت بدوي مجلجل: أمير المؤمنين هذا (معاوية بن أبي سفيان)، ومن بعده هذا (مشيراً إلى يزيد)، ثم استل سيفه البتار (مهدداً به من يرفض البيعة الغراء) ومن لم يقبل فله هذا..
ونفتح «تاريخ الخلفاء» للسيوطي، ونقلب صفحاته المثيرة التي تدعو إلى التأمل العميق (....؟)، ومن الأشياء التي تدعو إلى التدبر وإعادة النظر فيها مرّة بعد أخرى (.......) نذكر ما يلي على سبيل المثال ليس إلا:
في عام (575) خطب (عبد الملك بن مروان) أحد أبرز رجالات الدولة/ الخلافة الأموية التي دامت (92) عاماّ، ومؤسس البيت المرواني السلطوي الذي ورث البيت السفياني (.) بعد رحيل الخليفة الأموي الثالث (معاوية بن يزيد)، الذي خطب على منبر الرسول في المدينة ، بعد إخماد (فتنة) عبد الله بن الزبير وقتله، قائلاً: «والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه» ، ثم غادر المنبر الرسولي..
بعد عشرين عاماً من حكم عبد الملك بن مروان، وهو على فراش الموت، أوصى ابنه الوليد، فيما أوصاه: «إذا مت فشمر وائتزر، والبس جلد النمر، وضع سيفك على عاتقك، فمن أبدى ذات نفسه فاضرب عنقه، ومن سكت مات بدائه...».
إن القول السائر المأثور «الولد سرّ أبيه» ينطبق على الوليد تماماً، فقد أخذ الوليد (الذي حكم البلاد والعباد بقبضة حديدية صارمة عشرة أعوام) الوصية بحذافيرها ونفذها جملة واحدة وبدقة يحسد عليها..
هذا غيض من فيض إلى آلاف الصفحات.. ولا تعليق.. ولكن بقي في خاطرنا رواية حكاية صغيرة (أممية) وإن لبست لبوساً تراثياً، واتخذت العربية لغة لها، وسواء أكانت على سبيل الحقيقة أم المجاز...
تقول الحكاية: إن (سلطاناً) من سلالة السلاطين الذين يعبرون البحار والمحيطات والمدن والبلدان والقارات وكل الأمكنة... والذين لا يقفون عند حدود أي زمن من الأزمان... تقول: إن هذا السلطان كان يطلب كل واحد تقول عنه (الرعية) بأنه عالم، أو فقيه، أو أديب، أو فيلسوف أو (مثقف): ويسأله السؤال الآتي: أعادل أنا أم ظالم؟
فإذا أجابه: إنك عادل أو ظالم يا مولاي.. فصل رأسه عن جسده..؟
وإذا قال آخر منهم: يا مولاي أنت عادل وظالم في آن معاً... ذبحه من الوريد إلى الوريد بلا هوادة..؟!
احتارت (الرعية) في هذه المعضلة، وبعد مشقة في التفكير ومعاناة ومكابدة.. توصلت إلى أن (جحا) هو وحده من يستطيع تخليصها من البلاء الذي اجتاح البشر والحجر والشجر وكل ما يدب على الأرض... فذهبت إليه، وقالت له: يا (جحا)..! لن ينقذنا من هذا السلطان القاتل إلا أنت، فرحماك.. رحماك..
لما جاء دور (جحا) وسأله السلطان العظيم: يا جحا..! أعادل أنا أم ظالم؟ ردّ (جحا) مباشرة وبلا تردد: أنت، يا مولاي، لست سلطاناً عادلاً ولا ظالماً، والظالمون هم نحن (؟!) أجل.. يا مولاي، الظالمون هم نحن، وما أنت إلا سيف العدل الذي سلّطه الله على أعناق الظالمين، بل على أعضائهم كافة، الظاهر منها والمستور.. وفوق كل شيء أنت، يا مولاي، سلطان الله في أرضه... الباقي بقاء الزمان، ونحن –الرعية- لسنا أكثر من عابري سبيل (...؟!).
فرح السلطان الدموي، وضحك حتى الثمالة، وقال: رائع .. رائع، حقاً، هذا هو الجواب الذي لم أسمع أجمل منه عبر حياتي السلطانية المباركة من السماء والأرض، ومن الجنّ والإنس.. ثم أمر بأن يبقى (جحا) في القصر، يدخل ويخرج كما يشاء (...)