مصياف تحتفي بالرسم
في عالم تحتل فيه الثقافة البصرية جزءاً واسعاً من خبرتنا الجمالية وإدراكنا الفني، لا تزال اللوحة التشكيلية إلى اليوم غائبة أو مُغيبة تحت أضواء المراسم وصالات الفن المغلقة. والحال أنّ سطوة اللون والصورة ليست بالضرورة خياراً يقصده المشاهد ملء إرادته، بقدر ما هي عروض حاضرة في حياتنا، تحاصرنا، ولا تقتضي منا أكثر من تسليمها العين والبصر. على هذا فإنّ السؤال عن قدرة اللوحة في إمكانية المنافسة ضمن هذا الزحام من خيارات الصورة واللون، يبقى مرهوناً في طواعيتها للخروج من الصالة المغلقة والبحث عن فضاء مفتوح يخولها أن تحتل مساحة في ثقافة المشاهد وخبرته الحسية واللونية.
من يسير اليوم في مصياف لا بد أن يلفت انتباهه بين وقت وآخر لوحات رسمت على جدران الأبنية، يصور بعضها المعالم الأثرية والسياحية. وفي أخرى، تركت جدران المدينة نفسها لسجية أبنائها من الفنانين، يرسمون عليها ما أرادوا. هذا المشروع، الذي يشرف عليه بشكل أساسي الفنان سامر إسماعيل، لا يزال يكتسب زخماً متواصلاً ويثبت مقدرة دائمة على الاستمرار والتجديد منذ نحو عامين إلى الآن. حينها، أي قبل عامين، كان هذا المشروع هو مساحة للأطفال الموهوبين في الرسم حتى يضعوا بصمتهم على جدران المدينة وأزقتها، وليستطيعوا في الوقت ذاته إغناء مواهبهم من خلال إشراف الأستاذ إسماعيل. واليوم، لا يزال مشروع الرسم على الجدران قائماً، ولكن هذه المرة بأقلام وريش أبناء المدينة من طلاب وخريجي كلية الفنون الجميلة في دمشق وحلب.
ولا تنحصر أهمية مشروع كهذا في تجميل المدينة وإضفاء اللون على جدرانها وحسب، وإنما هو أيضاً تجسيد لما قاله مرةً الفنان الأمريكي جاكسون بولوك في كون عملية رسم اللوحة هي بحد ذاتها حدث فني. حيث أنّ الشارع يتحول إلى مكان يلتقي فيه الفنان أثناء عملية الرسم من جهة والعابرون الذين يتوقفون لدقائق أمام اللوحة التي تُرسم من جهة ثانية، ليصبح عندها الرسم حدثاً أقرب إلى نوع من الفنون الأدائية يأخذ من الشارع مسرحاً له. وهو ما يسهم أيضاً، في تقريب المسافة بين الفنان والمتلقي، وفي جعل الشارع فرصة للفنان يطل منه على مشاهدين لم يسبق لبعضهم ربما أن دخلوا إلى صالة عرض أو مرسم.
وليس بعيداً عن مكان رسوم فناني الجدران، وعلى طريق كروم الزيتون قرب الجبال لا بد أن يلفت نظر العابر لوحة صغيرة معلقة على إحدى الأشجار. وبحس من الفضول قد نقترب منها أكثر لنكتشف أنها ليست إلا واحدة من لوحات عديدة اختبأت في الخلف بحضن الزيتون وجذوع أشجاره. هو إذاً معرضٌ فني تنازل عن الصالة وتقاليدها ليجدد نفسه في كرم زيتون. هنا لا وجود لإضاءةٍ ذات تصميمٍ خاص سوى ما يكفي لرؤية اللوحات، ولا وجود للائحاتٍ تذكرنا بالأسعار. كما لم يذهب الفنان ياسر الحكيم، مبدع المعرض، في اتجاه التشدق بتقنيةً جديدة لتعليق اللوحات وعرضها. بساطةٌ خالصة، تنسجم ربما مع بساطة المكان وعبق تربته.
يحملنا الحكيم إلى تذكر أمرٍ ينساه أغلبنا رغم اعتباره من بداهة الأمور، وهو الذي نجم ربما عن إرثنا القديم من حضارات سورية والرافدين وما تضمنته من قيم الخصب والأرض والمرأة. ففي هذه اللوحات تحضر الأنثى لتكون المُعطى الأساسي في المعرض، وبحضورها بين الأشجار والتراب، تعيدنا مرةً أخرى إلى مدى ارتباطها بالأرض والخصب وعلاقتها الأصيلة بالتجدد والعطاء والطبيعة.
على هذا النحو ليس المكان الذي اختاره الفنان ياسر الحكيم حاضناً للوحاته محض صدفة أو تجريباً أعمى سببه الميل الشعوري إلى الأمر وحسب، بل هو اختزال دلالي مكثف وبسيط عن إمكانية «الصالة البديلة» في إعطاء قيمةٍ ودلالةٍ مضافة للوحة وفي العلاقة الجدلية بين موضوع تلك الأخيرة ومعرضها. وربما كان الأجمل هو حس الفضول الذي يخلقه عند العابر العادي للشارع في اكتشاف الفن والرسم واللوحة، ما يضيف إليه خياراً جديداً ينافس في زحام الصورة واللون، ولكن هذه المرة بقيمة أكبر وجهد جمالي أصدق في كثير من الحالات