الفـلسفة وجذورها اللـغوية
كتب كارل ماركس وكان في السابعة والعشرين من عمره: إن الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بأشكال مختلفة ولكن المهمة تقوم في تغييره. والسؤال هنا هل استطاعت الفلسفة تفسير العالم فعلاً؟ أزعم، نعم، استطاعت الفلسفة تفسير العالم. ولكنها لم تستطع تغييره. لماذا؟ هذا بحث آخر لا يتسع المقام الخوض فيه، وسنعود إليه في مناسبة أخرى. أما الآن فنعود إلى كلمة فلسفة لنسبر غور دلالتها وقدراتها بعد أن فقدت بريقها في أيامنا العجاف هذه. في بحوثه الشيقة عن جذور المفردات اللغوية عند مختلف الشعوب يصل الباحث العراقي الجليل علي الشوك إلى كلمة فلسفة اليونانية ويتوقف عندها على الشكل التالي: لدى الاحتكام إلى القواميس في البحث عن أصل كلمة فلسفة نجد أن الكلمة مؤلفة من مقطعين يونانيين فيلو حب، إعجاب، وسوفا الحكمة. والكلمة تعني باليونانية حب الحكمة. وكان فيثاغورث، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، أول من أطلق على نفسه كلمة فيلسوف أي محب الحكمة، بدلاً من كلمة سوفوز حكيم التي لقب بها.
وقد أشار كتاب من اليونان وفارس إلى أن فيثاغورث كان سوري المولد، بعضهم يقول من صور، والبعض الآخر من صيدا. ثم ذهب إلى مصر وأقام هناك إحدى وعشرين سنة، ثم أسره قمبيز ملك الفرس في القرن السادس قبل ميلاد السيد المسيح. وجيء به إلى بابل، وهناك تلقى علومه على يد الكهنة. وبعد بابل أقام في ساموس وهي جزيرة يونانية على مقربة من الساحل التركي الغربي. حيث أنعم عليه بلقب سوفوز وبالبابلية أشيفو. والظاهر أن اللفظة اليونانية مأخوذة من هذه الكلمة البابلية. وهكذا عادت بضاعتنا إلينا بثوب آخر. فالفلسفة كلمة نصفها يوناني فيلو، ونصفها الآخر بابلي سوفا، وهي مساهمة عادلة والحق يقال.
وأعتقد أن دلالة كلمة أشيفو البابلية حيّة ما تزال في الاستعمال اليومي عند أهل الشمال السوري في صيغتها المُعدّلة أشوف أي أرى أو أنظر أو أتنبأ أو أتعرف. وكلمة أشيفو البابلية تعني العرّاف، وكان الكاهن البابلي من طائفة الأشيفو طبيباً وعرّافاً في وقت معاً. وليس من المستبعد والحالة هذه أن يكون الأشيفو البابلي سلف الفيلسوف اليوناني. هذا ما وجدته عند أستاذي علي الشوك- مدّ الله في عمره- عن مبنى ومعنى كلمة فلسفة في كتابه ملامح من التلاقح الحضاري بين الشرق والغرب. إلا أن كلمة فلسفة لها روافد أخرى أضيفها إلى ما فكر به أستاذي، وإضافة الأفكار من التلميذ على الأستاذ مألوف ومحمود في باب الفلسفة.
في البحث عن حل لغز تقديس الحجر في بلاد الشام والجزيرة العربية، عندما كانت الأسر والقبائل تعيش حياة تجوال رعوية في الربع الأخير من الألف الثاني قبل الميلاد، ولم يكن لها موطنٌ تستقر به وتبني بيتاً مخصصاً للعبادة، فقد اعتادت على نصب حجر معين جعلت تحج إليه، وتطوف به سبعة أشواط على شكل دوران في حلقة هرولة تشبه الرقص. وكلمة حج مشتركة في اللغات السامية. فكلمة حجاج العبرية هي نفس كلمة حجاج العربية، وشريعة موسى تستخدم هذه الكلمة بعينها، وذلك عندما تأمر بأداء طقوس الاحتفال. وتعني الكلمة الدوران حول بناء أو مذبح أو حجر، بخطوات مهرولة منتظمة ومدرّبة، تأدية لطقس أو عيد ديني يحتوي على السرور والإنشاد.
وكان إبراهيم أثناء نزوله في مكان ما بصورة مؤقتة يقيم مذبحاً للعبادة والأضاحي في أماكن مختلفة ومناسبات معينة. وعندما كان يعقوب في طريقه إلى آرام رأى رؤيا ذلك السلم المدهش، والذي امتد بين السماء والأرض، فنصب حجراً هناك وسكب عليه الزيت وسماه بيت أيل أي بيت الله. ثم عاد فزار ذلك الحجر بعد عشرين عاماً وسكب عليه الزيت وأهرق عليه الخمر الصافي، كما جاء في الإصحاح الثامن والعشرين من سفر التكوين. وأقيم حجر خاص بمثابة نصب على يد يعقوب وحميه. واسم العلم الذي أعطوه للحجر المنصوب كان مسفا في اللغة العبرية أو مصفا بصورتها العربية. وقد أصبحت هذه المسفا فيما بعد أهم مكان للعبادة، ومركزاً حضرياً مقدساً تجتمع إليه العشائر الرعوية. ويبدو أن هذه المقامات المقدسة كانت مبنية على أماكن مرتفعة أو منصات عالية تشرف على محيطها إشرافاً بيّناً.
والآن ما هو مدلول كلمة مسفا، إنها تترجم عادة إلى برج مراقبة، وهي في اللغات السامية اسم ظرف يشتق من الشيء الذي تحيط به أو تحويه، وهي المكان أو البناية وأصلها صفا، وهي كلمة قديمة معناها حجر. وحري بنا القول إنه ليس الصفا المقام نصباً تذكارياً هو المقدس وحده، بل إن البقعة والدائرة التي يقع فيها مقدسة أيضاً. ولهذا فإن الحج عند المسلمين كالحج عند اليهود، يؤدى حول بناية مثبت فيها حجر مقدس. وكلمة صفا في أحد معانيها تعني المراقبة وتحديق النظر عن بعد والتعرف. وكان الشخص الذي ينظر أو يراقب من البرج يسمى صوفياً في العبرية، أي عارف. وهي وظيفة تعتمد على التحديق ببصر ثاقب لتمييز القادم من بعيد عبر مجاهل الصحراء المترامية الأطراف وللتحذير من الخطر في الوقت المناسب. وقد تطورت الكلمة في العبرية القديمة لتأخذ معنى الرائي، أو كما يسمى في العبرية نبيم أي نبي. وكلمة مصافي العبرية تعادل في علم الإملاء والصياغة العربية كلمة المصفي، أي الشخص الذي يحاول اختيار ما هو نقي وسليم وصحيح. ومنها اشتق اسم الآلة مصفاة وهي التي تصفي جميع المعطيات، وهكذا يتم تمييز أو فصل الحقيقي عن الزائف، والسمين عن الغث، وليس بعيداً عنها كلمة المصطفى الذي اصطفاه الله رسولاً للبشر.
ولابد أن نضيف على سبيل الملاحظة أن الكتاب العرب المسلمين قد كتبوا كلمة فلسفة اليونانية على شكل فلسفة بحرف السين بدلاً من حرف الصاد الموجود في العبرية. ويظن أن هذا الشكل للحرف قد أدخله المترجمون الأشوريون من طائفة النساطرة في ترجماتهم إلى العربية. وقبل مجيء مصطفى كمال أتاتورك كان الأتراك يكتبون اسم القديسة صوفيا في القسطنطينية بحرف الصاد. ويعتقد أن كلمة صوفيا، سوفيا اليونانية هي من نفس اشتقاق الكلمة العبرية، وبالتالي فإن الفكرة السائدة بأن التصوف مأخوذ من الصوف، وهو لبس الفقراء والزهاد، قد تكون صحيحة في بعدها الاجتماعي. أما عن اشتقاقها اللغوي فيمكن أن يكون من الكلمة العبرية صوفا التي تفيد معنى المشاهد أو الكشاف أو المتنبئ أو العارف. وإذا صحَّ هذا الاستنتاج فإن كلمة التصوف العربية الإسلامية تحمل في بعض دلالاتها معنى كلمة فلسفة البابلية العبرية اليونانية، أي العارف.