الهنود الحمر ودولة كنعان 1\2

الهنود الحمر ودولة كنعان 1\2

أغنى الدكتور والباحث «منير العكش» المكتبة العربية بعشرات الكتب والدراسات باللغة العربية والإنجليزية، والترجمات. لكن كتاب» دولة فلسطينية للهنود الحمر- 445 صفحة إصدار رياض الريس للكتب والنشر» الذي نقدمه بهذا العرض السريع والمختزل، بالنظر لما يتضمنه هذا الإنجاز البحثي الاستثنائي، هو الأحدث في إصدارات الكاتب، فقد زود الكاتب المعرفة العربية بعدة كتب هامة ساهمت بتسليط الضوء على مراحل تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، «المستوطنة/المستعمرة» البيضاء على يد غزاة «بيض» قدموا من القارة الأوروبية، ومارسوا واحدة من أبشع وأقسى مجازر الإبادة البشرية في التاريخ.

لقد أسست كتب المؤلف «أميركا والإبادات الثقافية» و«أميركا والإبادات الجنسية» و«حق التضحية بالآخر،أميركا والإبادات الجماعية» و«تلمود العم سام:الأساطير العبرية التي تأسست عليها أميركا» وصولاً للكتاب الذي بين أيدينا، لعمل متكامل، ساعد جمهور واسع من  القراء والمهتمين على معرفةِ واقع النشأة والتأسيس والامتداد لـ«الولايات المتحدة الأمريكية»، حيث تظهر بلاد «الحلم الأمريكي» وقد انكشف زيفها، ليس بواقع دور الهيمنة والتدخلات العسكرية وسواها في عالم اليوم، بل في الوضع الذي آل إليه أصحاب الأرض الأصليون في معازل أشبه ماتكون بالقبور.
يتضمن الكتاب ستة فصول مع مقدمة وملحق وصفحات عديدة تحتوي المراجع وفهرس الأعلام والأماكن.
أما اختيار الكاتب لـ “فاتحة هندية” كبداية لرحلة القراءة في صفحات الكتاب، فقد جاءت لتحدد الهدف من الدراسة البحثية والتاريخية التي صاغها بكل موضوعية وتفرد. فهذه البداية اللافتة، كانت خطبة الزعيم الثائر، نبي المقاومة للشعوب والأمم الهندية «تِكومْسِه» في أيلول / سبتمبرعام 1811  التي شكلت «مانيفستو...البيان الشامل» خطة العمل للتصدي للغزاة، بكل ماتتطلبه من وحدة الصف ووحدة الهدف. يقول الزعيم«ليس أمامنا سوى أن نقاوم أو ننتظر الإبادة... إذا اتحدنا جميعاً فإننا سنصبح أقوى من (الغزاة) البيض، أما إذا تفرقنا فإننا لن نستطيع مقاومتهم بل إنهم سيهزموننا ويسرقون أوطاننا ونتناثر كأوراق الخريف في الريح العاتية». كانت نبؤة، لكنها تحققت على ارض الواقع بفعل عوامل عديدة، في مقدمتها العامل الذاتي: طبيعة الروح السلمية في معتقدات ومكونات تلك الشعوب التي بنت حضارة، فاجأت غزاتها المتوحشين.
رجال الكهنوت والفلاسفة
في تسويغ الإبادة
في عملية تزاوج تكررت عبر التاريخ الاستعماري في العالم، تتوضح في الغزوة الأوربية للقارة الأمريكية، العلاقة العضوية المباشرة مابين التمهيد الفكري الذي يرتدي لبوساً «دينياً» على يد المبشرين ورجال الكهنوت وحملة الأفكار العنصرية ممن يوظفون العلوم النظرية لتأكيد التفوق العرقي «المزيف» وخاصة أولئك الفلاسفة، الذين نتعرف على أحد عنصرييهم الفاجرين «توماس هوبس» الذي مارس عملية تزوير فاضحة للواقع السياسي والاجتماعي الأمريكي من خلال تأكيده على أن طبيعة كل الشعوب والأمم الهندية لاتسمح لهم بإنشاء دولة أو بحكم أنفسهم، فهم حُكماً مجرد «وجود للموت».هكذا استحق «هوبس» تسمية «فيلسوف التوحش»، وبالوقت ذاته، أحد الأعمدة التي قامت عليها «شركة فرجينيا» في تأكيد جديد على قدرة رأس المال المتوحش، فكراً وممارسة، على تجنيد الميكيافيللية الدينية على يد المبشرين، والفلسفة من خلال اكتشاف «هوبس» للقانون الطبيعي للاستيطان ونهب أراضي الغير. أما فيلسوف «التسامح البريطاني» جون لوك الذي ساهم بنشاط الشركات الاستعمارية وفلسف «أخلاق النخاسة»، فقد برر في رسالته عن التسامح ،بأن إبادة الشعوب الهندية تهدف لتخليص «مملكة الله» أرض الميعاد من وجود الوثنيين المتوحشين فيها، لأن أي تقصير في تطهير تلك الأرض هو «خيانة عظمى».
إذا كان الآباء المؤسسون للمستعمرات/المستوطنات الأولى على أرض أمريكا الشمالية قد مارسوا عمليات الطرد للسكان الأصليين، فإن الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين استكملوا مراحل الإبادة الجماعية بمذابح وحشية قل نظيرها بالتاريخ الإنساني. ويبرز دور «جورج واشنطن» المؤسس الفعلي للولايات المتحدة، أو «موسى الأمريكي» تماهياً مع موسى بني اسرائيل في فتح بلاد كنعان الهندية وإبادة أهلها وتدمير أي أمل لهم في الدولة التي تكررت وعوده لهم بإقامتها، بالاطلاع على أقواله «ليس هناك من يطرب للحرب على الهنود مثلي أنا... أزيلوا كلاب جهنم هؤلاء من على وجه الأرض» أو على رسائله لقادته العسكريين التي نجد في ماكتبه للجنرال «سَليفن» أصدق تعبير عنها «عندما نسحقهم سحقاً كاملاً علينا أن ننادي بالسلام مستغلين خوفهم لتحقيق المزيد من المكاسب». كما أن سجلات الوثائق تكشف لنا كيفية سلخ فروات رؤوس شعوب تلك الأمم الجنرال «جورج كلارك» المقرب من واشنطن سلخ وحده أكثر من سبعين فروة رأس في حملته على شعب «الشاوني» كما تكشف سجلات المكتبة التاريخية لولاية إلينوي _ وتقطيع جثثهم وتحويل جلودهم لصناعة أحذية «جزم» للضباط، وإطعام عجائزهم للكلاب المسعورة في حفلة رقص وفرح مجنونة تزيدها دموية نشوة زجاجات الكحول.بل إن التسلية الرياضية المفضلة لأبناء شعب الله هي تجرع الكحول والسُكر، ثم الذهاب لقتل الهنود وإحراق بيوتهم ومزارعهم. «فصيد الهندي لايختلف عن صيد الدب أو الجاموس البري» كما يقول جون هكويلدر. لقد تحول الرئيس «واشنطن» في الدين المدني الجديد «إلهاً» كما كتب عنه أحد المستوطنين «كدنا ننسى أنه إنسان وصرنا نراه كائناً إلهياً أرسل إلينا من عالم غير هذا العالم».وتشهد احتفالات يوم مولده «اليوم المقدس» كل سنة أكثر مما يشهده ميلاد السيد المسيح: ملايين البرامج الاحتفالية التي ترهق الميزانية، وملايين المقالات التي تمجد هذا «الكائن» غير العادي. وتبرز لوحة «تأليه واشنطن» التي تزين قبة مبنى الكونغرس «الكابيتول» كتعبير عن حالة التقديس التي يشعر بها المستوطنون نحوه. هذا الكائن غير العادي الذي هجر الدراسة وهو في الرابعة عشرة من عمره، وقال عنه الرئيس «جون أدامس»: «إن رئيسنا أمي جداً...لم يقرأ شيئاً، ولم يتعلم شيئاً».

يتبع