السخرية .. عملة السوريين الصعبة في سوق الحرب السوداء!
«يرجى التقيد بمواعيد القنص وإطلاق القذائف»، «ألمانيا عيونها خضر»، «الكهرباء تعود إلى حضن الوطن»، «العالم مشغول بظاهرة القمر العملاق النادرة ، والسوريون مشغولون بـ 24 ساعة كهرباء هي الأندر»، «أشعر أن البلد سفينة تايتانيك، وها إن الجميع يقفزون منها بينما أنا جالسة مع الفرقة التي تعزف»، «أوباما منشغل بالاستعداد لضرب سورية والشعب السوري منشغل بإعداد المكدوس »!
جُمل طريفة وآلاف العبارات الأخرى، درج السوريون على تداولها، كلما قلبوا صفحة جديدة في روزنامة الحرب التي تعصف في البلاد منذ خمس سنوات حتى الساعة، بدت نزعتهم الساخرة هذه وسيلة ناجعة وسلاحاً قوياً ربما تعينهم على مواجهة الحرب.
بسيط غير متكلف.. لاذع وعميق!
قلة هم السوريون الذين قرأوا عن الأدب الساخر، وبالكاد يعرف بعضهم مثلاً أن الجاحظ من أوائل مبدعيه العرب، وأن برنادر شو من أشهر الساخرين الأجانب، ومع ذلك تابع معظم السوريين مسرحيات الماغوط الذي كانت أعماله بحد ذاتها، مدرسة رائدة في فن تحويل الواقع المر إلى نكتة، وهو الذي لم يألُ في ذلك جهداً، فلجأ إلى أشكال عدة ووظفها بحرفية عالية في مسرحياته سواء منها السخرية بالتورية أو بالتلاعب بالألفاظ أو التعريض أو المناداة بالألقاب أو السخرية بالمحاكاة أو بالصوت.. إلى ما هنالك من الأنواع المختلفة.
بالإضافة إلى تأثرهم الشديد بما قدمه الرحابنة بهذا المجال من فن، وخصوصاً مسرحياتهم التي طورها زياد الرحباني لاحقاً لتشتغل على انتقاد الواقع بأسلوب ذكي جداً، بسيط غير متكلف، لاذع وعميق في آن.
ومازالت العبارات الموجزة المختزلة لأبطال مسرح الرحابنة مختزنة في وجدان الناس ووعيهم الشعبي، يجري استدعاؤها في أحلك الظروف وأقساها، لما لها من قدرة على التعبير في كثير من الأحيان عن حالة سياسية كاملة!
الحاجة.. والاختراع!
لا تقلّ حاجة الإنسان للضحك أهمية عن حاجته للماء والهواء والطعام؛ بالإضافة إلى أن حبس الأوجاع والآلام في قلب المرء العاجز عن الصراخ وعن تغيير واقعه أمرٌ كفيلٌ بقتل روحه ببطء، وربما حاجة السوري اللاشعورية الماسّة للضحك، جعلته يركن إليها كلما ألمّ به كرب جديد.
قد لا يوجد في قاموس الحرب ما لا يصلح للسخرية، ولذلك طالت محاولة تذليل شراسة الحرب، أكثر المسائل الإنسانية حساسية وبؤساً، و لقد قام بهذا كل سوري، حتى أن البعض حاول السخرية إلى آخر لحظة في حياته، البعض لجأ إلى الضحك والغناء قبل أن يصير شهيداً، بينما حوّل سوريون آخرون مخيمات لجوئهم بين الحدود الأوروبية إلى مسارح ممكنة للتندر والتهكم على واقعهم المرير، وقاموا بتصوير شقائهم ضاحكين بعبارات طريفة ترافق الكاميرا.
لم تنجُ شخصية مهما كبرت أو صغرت قيمتها من عبارات السوريين اللاذعة، فمن يغيظهم بعبارة مستفزة تزدري معاناتهم، يتحول إلى مادة للتندر، مهما كان شأنه. ومن يبادر إلى ما يسهم في تعميق أسباب معاناتهم، تستضيفه صفحات التواصل الاجتماعي الناقدة وتضع صورته ضمن بوسترات ترافقها عبارات ناقدة لاذعة خفيفة الظل، تهدف إلى إثارة إعجاب رواد الصفحة عن طريق إضحاكهم. ولا يخفى على أحد أن بعض المنشورات والصور الكاريكاتورية صارت مناسبة منتظرة يجتمع فيها السوريون كل بدوره ليضيف تعليقاً هازئاً أكثر من سابقه.
واقعي جداً!
تلك الوسيلة العفوية التي كانت متكأ لكل مواطن يمتلك حس الدعابة والمخيلة الخصبة والبلاغة في التعبير، ساعدت على تبديد الدخان الخانق في أحلك اللحظات التي تمر على الشعب السوري، فالنكتة الجيدة والصورة المرحة، يتم تداولها بسرعة، وكذلك بعض الصفحات التي يديرها أشخاص أذكياء مرحين، يجيدون انتزاع البسمة وسط ركام الحرب، ويصير البرنامج التلفزيوني أو المسلسل الكوميدي غير المنفصل عن الواقع والأكثر شعبية، مقصداً للكثيرين .
لم توفر الحرب أحداً، فأبكت كل سوري، مهما كان المكان الذي وجدوا فيه أو الاتجاه الذي يتبناه، كذلك فعلت مع كل من سمع أو شاهد أو عايش ولو جزءاً صغيراً أو حالة من الحالات المأساوية التي مر بها الشعب السوري. كل إنسان شيّعت عيناه صورة شهيد، أو شاهد طفلاً جائعاً، أو تابع خبراً عن مأساة نازح، أو سمع بمجزرة أو بحصار أو بتعذيب.. من لم يبكِ أبداً خلال سنوات الحرب الخمس أسفاً وحزناً وقهراً، فليطمئن إلى أن قلبه متحجر كصخر أصم، وأنه ما من شيءٍ في الكون يمكن بعد الآن أن يحرك أحاسيسه المتبلدة .
تدوير الفاجعة!
غير أنّ السوريين لم ينهزموا أمام ويلات المأساة التي يعيشون، لم يستسلموا للدموع، والوقوف على الأطلال بل أعادوا تدوير الفجيعة وراحوا يقطرون من حزنهم ضحكاً يتقاسمونه فيما بينهم و يوزّعون ما يفيض منه على القلوب الطاعنة في الخوف على سورية وعلى الناس.
لا بد للحياة وللحب أن يشقا طريقهما رغم أنف الموت والخراب، والشعب السوري شعبٌ حي، جردته الحرب سلامه وأمانه وبيته وجيرانه ولقمة عيشه، لكنه ورغم كل خسائره، لم يُلق درعَه الأخير الذي أعانه على توقّي رماح القهر، وهكذا، صارت السخرية عملة السوريين الصعبة، أو ربما رصيدهم الذي يبادرون إلى الإنفاق منه، كلما دخلوا مُكرهين سوق الحرب السوداء.