أغاني الحصاد..

أغاني الحصاد..

مازال الناس في الشرق يحاولون الحفاظ على ما تبقى في ذاكرتهم الجمعية من الحكايات القادمة من الماضي، أساطير وملاحم مزركشة متنوعة ومتعددة وغنية بألوانها كغنى الشرق نفسه وتنوعه، أبطالها مجهولون، ملاحم غنائية وقصائد ملحمية تؤرخ عيش الناس وقدرتهم على الصمود في وجه المآسي والمحن المتتالية منذ مئات السنين.  

يختزل الفلكلور الشعبي أسلوب الناس في الحياة ونمط معيشتهم، ويروي قصص الحب والبطولات العامة والفردية ومآثر الإنسان أمام الطبيعة، التي غالباً ما جرى نقلها شفاهاً من جيل إلى جيل. وتشترك غالبية شعوب الشرق في هذه المسألة، حيث افتقرت أغلبها إلى التدوين والكتابة، عدا بعض الدراسات ذات الطابع التخصصي، بل جرى نقلها عبر الحكايات والأمثال والأغاني.. الخ، ويلاحظ بينها كثرة المشتركات في تفاصيل التراث الشعبي لهذه الشعوب خاصة تلك التي تعيش مع بعضها وتشترك في الجغرافية و في نمط المعيشة.

الحصادون 

تعود أغنية «أيها الحصادون»، وهي أغنية من الفلكلور الآشوري مثلاً، إلى مئات السنين، وترثي كلمات هذه الأغنية حال الفلاح الآشوري الذي طحنه ظلم الأغنياء، وتدعو الفلاحين للنهوض إلى الحصاد وكسر القيود، وتوصف حقول القمح وبساتين الكروم المترامية التي تنهب، وتتسائل عن حصة من يزرع ويحصد ولا يحصل على شيء!

توصف كلمات أحد المقاطع ما يفعله الأغنياء قائلة:

«وقلوبهم مغلقة، يمرون بجانبنا ولا يلتفتون لنا، نحن عطشى وهم لا يروننا، نحن جياع وهم متخمون». وتكمل التساؤلات في مقطع ثان: «إلى متى سيبقى أبونا العجوز، يزرع الحنطة، ولا يحصل على الذهب، إلى متى سيبقى بانتظارنا، ويداه مجروحة من حراثة الأرض». وتؤكد في النهاية على إرادة الناس: «أيها الحصادون قوموا، واحصدوا حصادنا، فقد حان الوقت لنكسر القيد..».

ملاحم القمح..

أما التراث الكردي القديم فيجري تصوير الحصاد وتمجيد تعب الحصادين، في القصائد الغنائية التي تعود أيضاً لمئات السنين، فمثلاً في منطقة موش تروي «ملحمة القمح» حكايا السنابل وتشبهها بخصل شعر الحسناء الشقراء المنسدل على كتفيها، وتصور «شالها الربيعي» الذي يستعد للحصاد، ويؤمن لقمة الأطفال قائلة: « قمح وقمح وقمح، لقد نضج هذا القمح، كشعر الشقراء المنسدل، قمحنا خريفي، مثل شال العذراء، قمحنا ربيعي، مخبئ العاشقين، قمح وقمح وقمح، لقد نضج القمح».

وتؤكد قصيدة غنائية أخرى بالاسم ذاته في منطقة شرناخ، حب الإنسان للأرض وتعلقه بها، وامتنانه على ما تعطيه من خيرات،  تقول في مطلعها:

«الخير قادم، ويأتي، يأتي من جذور دجلة والفرات، لقد زرعنا فيها حبة حنطة، ونمت السنابل، وجاءت منها كل خيرات الأرض».

وفي منطقة ديرسم، تقول أغنية قديمة:

أيها الفلاح المسكين، لماذا لم تأخذ حقك، أيها الفلاح المسكين، لماذا لم تأكل من تعبك، انظر إلى يديك التي تشققت، لماذا لم تحصل على نتيجة كدحك، لماذا تقوم بخدمة الأغنياء ليل نهار!».

التأثيرات المتبادلة 

يحفل التراث الآشوري، كغيره بقصص الحب  والعشق والبطولات والمآسي والحنين.. الخ، وكغيره أيضاً، يعاني هذه التراث من كونه لم يحفظ ويدون كله، ويعود سبب  ذلك في جزء منه إلى طبيعة الشعب (الفلاحية)، وإلى ظروف التهجير والهجرة التي عاشها. مما جعل مآثره تنتقل شفاهياً عن طريق الأغنية الشعبية والقصيدة الغنائية، والأمثال وغيرها، وهذا ما ينطبق على تراث الشعب الكردي أيضاً، رغم التفاوت النسبي بينهما في هذه المسألة. ويلاحظ التأثر والتأثير المتبادل بينهما والذي غالباً ما يغفله الباحثون في دراساتهم عند دراسة الأدب والتراث الشفاهي، وهو ما ينطبق على الشعوب الأخرى كالعربية وغيرها. فعلى سبيل المثال، هناك الحكايات الآشورية الفولكلورية القديمة مثل «الراوي» و«الليليانا» القادمة أصلاً من قرى منطقة هكاري والتي تنتشر بين الأكراد أيضاً.

لقد عاش أبناء هذه المنطقة (أكراداً وعرباً وآشوريين وسريان.. الخ) جنباً إلى جنب على أرض واحدة منذ آلاف السنين، وتشاركوا الظروف القاسية نفسها، وتبادلوا الخبرات الفلاحية والحرفية.. الخ. واشتركوا بالألحان الموسيقية رغم تنوعها، ولكنها في الغالب تتشابه في الأوزان، ونظام القوافي، وكما في السابق لم يستطع أحدها أن يعيش بمعزل عن الآخر تشترك اليوم أيضاً بالظروف ذاتها المصير ذاته.