أمسكوا القاتل..!
امتلأت الصفحات الإلكترونية بالحزن والغضب، واستشاطت الحسابات الفيسبوكية غيظاً إلى حد فاق العادة، لقد فقد العالم أجمع شخصية لا تعوض، قتلت بكل وحشية ودم بارد ليفصل الرأس على الجسد ويصور أمام عدسات الكاميرات، جريمة بشعة تردد صداها في كل مكان وسط استهجان كل المتابعين، بدا وكأن لا شيئاً آخر يجري في هذا العالم سوى هذا الحدث الجلل، هي ليست المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه «الجريمة»، لكن الضحية كانت هذه المرة أحد المشاهير العالميين، إنه «سيسل»، أسد زيمبابوي والرمز الوطني لتلك البلاد!
بدأت صور الصياد «القاتل» بالانتشار عبر الإنترنت خلال ساعات، إنه طبيب الأسنان الأمريكي والسائح المعتاد لأراضي زيمبابوي الساحرة «والتر بالمر»، لقد اعتاد الرجل على استخدام بندقيته في كل سنة ليقتل أحد الحيوانات النادرة من دون أي يوقفه أحد، يشاركه في ذلك أعداد متزايدة من السواح الأمريكيين الذين يقصدون تلك البلاد بالذات لممارسة هوايتهم المفضلة.
أخطأ الرجل هذه المرة في اختيار فريسته، فاستدرج الأسد «سيسل» خارج حدود حديقة الحيوان التي يسكن فيها، وأرداه قتيلاً حين سنحت له الفرصة، وخلال دقائق تحول نجم العديد من الدراسات العلمية وبطل برامج الطبيعة التلفزيونية بشعر رأسه الأشقر والأحمر المميز إلى جثة هامدة مفصولة الرأس.
موضة جديدة!
لم يكن يعلم الدكتور «والتر» عمق المصيبة التي وضع نفسه فيها، ليتحول إلى مركز عاصفة من المزايدات الإعلامية التي أرادت أن تركب «موضة» التعاطف مع حقوق الحيوان التي لها نصيبها الكبير من الداعمين، تناولت كبرى الصحف الأمريكية والأوروبية القضية بكل جدية وأخذت تدعو إلى المحاسبة العسيرة لهذا المجرم جراء ما اقترفت يداه من أفعال!
وأخذت المحطات التلفزيونية تستفيض في تقاريرها الغاضبة المتعاطفة مع «المصيبة التي يعاني منها اليوم شعب زيمبابوي»، تلك البلاد التي لا يسمع عنها أحد في الأيام العادية، في أيام الاقتتال العرقي أو المذابح أو الانقلابات الدموية «التقليدية»، صدرت تصريحات الإدانة الرسمية من المسؤولين الأمريكيين على اختلاف مستوياتهم، وتوعدوا جميعاً بملاحقة القاتل ومحاسبته.
حصة نجوم هوليوود.. و«ويكيليكس»!
تناوب نجوم هوليوود وعظماء الفن والغناء في أمريكا على استنكار الجريمة على صفحاتهم الشخصية وحساباتهم على توتير وإنستغرام، شقت «موضة» هذا الأسبوع طريقها عبر الشبكة الافتراضية لتصل إلى كل بيت، قام البعض بنشر عنوان عيادة المجرم «والتر» وأرقام هواتفه الشخصية، وتلقى الصياد الماهر تهديدات قتل بالجملة، كانت حفلة جنون جماعي لا تصدق.
لم يمض الكثير من الوقت حتى تكشف المزيد حول تلك القصة، ربما أكثر من اللزوم، حيث أصدر موقع «ويكيليكس» المشهور تسريباً جديداً لوثيقة رسمية أمريكية تعود إلى العام 2008، ممهورة بتوقيع «جميس ماكغي» السفير الأمريكي في زيمبابوي آنذاك، تحتوي على دليل قاطع يثبت معرفة الحكومة الأمريكية بجميع السياح الذي يقصدون تلك البلاد بقصد صيد الحيوانات البرية ضمن لوائح منظمة وبالتنسيق بين الحكومتين، حيث تبلغ حصة «زيمبابوي» 20 مليون دولار سنوياً من صيد الأسود فقط على أراضيها، هذا ما أكده محامي «والتر» الذي أكد بأن رخصة موكله قانوينة وأوراقه نظامية بالكامل، وبأنه «لو علم من هو “سيسل” لما قتله»!
وأضافت الوثيقة المسربة بأن نسبة الصيادين الأمريكيين تفوق السبعين بالمائة من مجمل «سياح زيمبابوي»، وهي المقصد الأول لجميع أولئك الرجال الأثرياء والمتفرغين الذي يودون إضاعة بعض الوقت في اقتناص أحد أندر الحيوانات على الأرض وتعليق رؤوسها في قصورهم الفارهة.. بشرط ألا تكون مشهورة!
«سيسل».. وإحراق الطفل الرضيع!
يبقى الاهتمام العالمي بقصة «سيسل» لغزاً مستفزاً للمتابع المحلي والعربي على وجه الخصوص، المقارنة مزعجة بين تلك الهموم وما يعانيه الجميع هنا كل يوم من مصائب، كما أن تلك «الجريمة» قد تزامنت مع «جريمة» أخرى هي بالفعل أكثر أهمية، إذ لم تلق حادثة إحراق الرضيع الفلسطيني «علي الدوابشة» في نابلس من قبل مجموعة صهيونية الاهتمام ذاته، بل لم تأخذ حتى حقها من المتابعة، وصفت الصحف ذاتها التي أفردت الصفحات الطوال لـ«سيسل» المجموعة المجرمة بأنهم «متطرفون يهود»، ونشرت عدة مرات تصريحات رئيس وزراء الكيان الصهيوني، ورئيس أركان جيش الاحتلال التي تدين «بأقسى الكلمات ذلك الفعل البربري»، وكأن تلك الأفعال غريبة عنهم!
العدالة «السهلة».. تكفي!
لا مكان لذلك النوع من الضحايا في سباق الأخبار العالمية اليومية، فهي قد تبدأ سلسلة طويلة من الإدانات والاعترافات «غير المحببة»، ومن الأفضل أن تبدأ عملية الملاحقة «الشيقة» لذلك العجوز الثري الذي قتل محبوبنا «سيسل»، هذه هي العدالة «السهلة» التي ترفع من نسب المشاهدة..