فايز قزق يزرع الأمل
ضمن أيقونات المسرح السوري يتربع الفنان الكبير فايز قزق على قمة التفاعل الإنساني الخلاق، في توقٍ مستمرٍ إلى الرقي بالفنون ضمن ارتباطها الوثيق بتطوير مشروع وطني تشكل الثقافة الأصيلة والعميقة جزءاً مكوناً منه.
بين الأصولية والتغريب ما هو دور الفن في صنع الهوية الوطنية بين الحدين اللذين يتجاذبان السوريين كلٌ في اتجاهه؟
حاورته د. عروب المصري
عندما تدخل اليوم كلمة فن إلى أي حديث سواء كان رسمياً أم عابراً، أبدأ بالتفكير ما هو الفن؟ بات من الواضح بالنسبة لي بشكل مؤكد أن الفنانين ومن يطلق عليهم المبدعون والموهوبون هم أولئك الذين كرسوا صورهم في بيوتنا عبر التلفزيون ووسائل الاتصال الإلكتروني، وبات الناحت في الفن والعامل في الفن الحقيقي بعيداً، وأهملت صفات الفنان الذي كان بالإمكان أن نروج له جميعاً وكان بإمكانه أن يروج لأسئلتنا ومهماتنا ومشاعرنا الحقيقية وأن يبدي دفاعاً مستميتاً عن هذه الحاجات والآلام والآمال. اليوم كلمة الفن تعني التلفزيون عند الكم الأكبر من البشر لدينا ولا يعترف بك كفنان إلا إذا كنت ممن يخرجون بما يسمى الدراما.
ما هو السبب برأيك؟
لأن صورهم هي التي توجد هناك ولأن الأمية ضربت أطنابها، وهناك نوعان من الأمية: الأمية الكلاسيكية، والأمية الكمبيوترية عبر الإنسان الذي يحمل الكمبيوتر ويجمّل بالإعلام والإعلان، عبر الفاشن والأمبلاج وثقافة الشوبينغ، وهو خطر ويعتقد بنفسه شبيهاً بمن اخترع الكمبيوتر، ويستطيع تدمير العالم وعلاقات البشر وذاته دون أن يعي ما يفعل.
كلمة الفنان صارت توحي بالشخص الغني جداً، لقد تم استرخاص الكلمة والصورة والنص وتجنيدها لهذا النمط من الفنانين، وسرقة كل شيء من هذه الفنون وبات الفن فقط فيما يسمى بالدراما، الدراما بحد ذاتها كلمة تنتمي إلى الشعر ذي الطقوس الدينية في القرن الرابع ق.م في أثينا، فسرقت الكلمة وباتت كلمة «درامية» هي التي تدور، هناك أفكار خبيثة من باب تحويل كلمة مسرحية إلى درامية، فالقول بالمسرح الدرامي، والمعهد العالي للفنون الدرامية، فكرة وسخة يجب الانتباه لها.
الحاضنة اليوم هي «أراب آيدول»
هذا النمط من التفكير هو الذي يسود لدينا، والسبب هو وجود الكم الهائل من المال الذي صرف على التلفزيون لإنشاء واجهات لها مصداقية قادرة على طمس الحقيقي، وعدم السماح لسليل المبدع الذي كان بيننا في الخمسينات والستينات والسبعينات من أن يتابع عمله. سليل أم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب والسنباطي وشادية وعبد الحليم وصباح فخري ونصري شمس الدين يطمس، كل هؤلاء لم يعد لديهم أي نوع من النسول الإبداعية، ضمن الحواضن الاجتماعية التي كان يفترض أن يتكون بها الوارثين والمتابعين لفنونهم، اليوم الحاضنة هي «أراب آيدول»، هذه الحاضنة قذرة جداً لأنها تنتقي من يمكن أن يكون سليل أحد هؤلاء المبدعين وترفعه إلى السماء بلا مظلة ليوم واحد، ليهبط ويتحطم وينتهي الأمر، فهناك قطع لأي نوع من أنواع العلاقة الوجدانية ذات الصلة بجبران خليل جبران وحسين مروة وغالب هلسة وزكريا تامر وحسن م. يوسف، كل هذا يبرمج ضمن القمر الصناعي الذي لو كان هناك شعور لدى مالكه بأننا سنستيقظ سيوقف هذا القمر، وإحساسه باستمرار الغيبوبة، يجعل الصورة مستمرة، وأرواحنا مكدسات لتلك القيم.
كنت أستشعر بما هو قادم منذ العام 2005 منذ اغتيال الحريري وبدء FBI في البحث وهي الشرطة الداخلية الأميركية، أي هم يعطوننا الإحساس بأن لبنان هي أرض أميركية والحدث جنائي داخلي.
مع الحرب انفجرت كل الأسئلة الوجودية، وظهر سؤال: من نحن؟، وظهر رفض للعروبة وتقديس المناطقية والطائفية، ما هي الهوية المطلوب تكوينها من جديد، كيف يمكن صياغة المؤسسات السورية لتكون قاطرة للمرحلة القادمة، ومثال عليها: المعهد العالي للفنون المسرحية وحضرتك أستاذ فيه؟
الجنسية التي أؤمن بها بعد كل هذه العلوم والقراءات هي الإنسان، وهذه هي البوصلة الحقيقية للخروج من كل أزماتنا، هناك أزمات ستبقى بعد الأزمة، ولدينا استحقاق الكيان الصهيوني يجب مواجهته وإنهاءه من أجل أن يكون لدينا إمكانية الخيال والتمني.
لهم أعين ميدوسا
هناك أعداء للكلمات في المكان ولكل ما هو جديد وإنساني وبالتالي علينا مواجهة ذلك من الداخل والخارج، وعالم اليوم لا يحتمل الانتظار طويلاً، نحن نعيش تسارع التسارع، لكن هذا الإحساس ليس موجوداً لدى المؤسسات، لا الثقافية ولا غيرها، أصلاً لم يعد لدينا مؤسسات ثقافية فهي أماكن يرتع فيها أشخاص تكلّسوا وكلّسوا المكان وبات أي اقتراب منهم يشكل احتراقاً للفكرة ولهم أعين تشبه أعين ميدوسا، فيمكن أن يحرقوا أية فكرة جميلة إنسانية. لم يعد هناك أية رغبة في الدخول إلى المكان، كنا نلهث بعد عملنا لرؤية فنانين مثل يوسف حنا ويعقوب أبو غزالة ودريد لحام وفواز الساجر وشريف شاكر وسعد الله ونوس، اليوم المكان متقيح، نقطة انتهى.
سلاسل فساد تتكون
هناك أشياء خطرة في المعهد العالي للفنون المسرحية فمنذ عدد من السنوات لم يتم إرسال بعثات إلى الخارج للتخصص والعودة، وقد قدم أكثر من عميد للمعهد أسماء الأوائل، لكن وزارة التعليم العالي مصرة أن ترسل بعثات منذ ما بعد الثانوية العامة فقط، مما يعني أن الفساد قد ضرب أطنابه هناك وبدأوا يرسلون من يريدون فقط، فهي سلاسل فساد تتكون في كل مكان، في المعامل والحقول.
مرحلة البلوك والعشوائي
كان في سورية عدد كبير من المسارح ودور السينما تتناسب مع سكان البلدات، ففي السلمية كان يوجد 650 مقعداً في السينما وعدد سكانها أقل من 6000 نسمة، فمن البديهي أن يكون هناك محمد الماغوط وكل من كتب شعراً وأدباً، ومكاناً للزراعة والإنسان المتوازن، ومع إلغاء هذه المقاعد أصبحنا في مرحلة البلوك والعشوائي، الآن أين هي التتمات؟
هناك من يقدم الآن ما يسمى «فن الأزمة»، وهي غالباً أعمال مرتبطة بالحرب، هل يمكننا صنع فن أثناء الحرب وما هو المطلوب من هذا الفن؟
من هم الذين يقدمون فن الأزمة؟ سأسأل هؤلاء: هل قدمتم فناً يتفادى هذه الأزمة قبل أن نصل لهذه الأزمة، ويضع الناس في حالة وعي أن الأزمة تقترب؟، أما الاستثمار فيما قبل الأزمة ثم الاستثمار في الأزمة. فمن الواضح هذا النمط من التفكير في محاولته إضاعتنا عن البوصلة، من يمكنه أن يتكلم في فن الأزمة هو إنسان الأزمة الذي ينبت الآن، وليس من كان!!، من كان هذه نتائج كينونته.
في عملية إعادة صياغة الوعي
ألا يوجد لدينا سيناريو بديل؟
الأمر له علاقة بالسيطرة على الدماغ البشري، مشكلة البشرية في ظل سيادة الولايات المتحدة، مستوطنة الشركات الاحتكارية الضخمة بذراعيها العسكري والاقتصادي، هذا الوعي يجب أن يتم احتلاله وإيقافه باستمرار، وهو الاحتلال الأيديولوجي للإنسان، يطمس معالم الشخصية الإنسانية الوجدانية بكل معالم مكوناتها الأصيلة، ويبدأ بزراعة سيميوتيكية دلالية تعتمد على المفردات التي تجعل الإنسان يعمل لمصلحة الولايات المتحدة والحركة الصهيونية، وهو مشروع لتدمير الإنسانية برمتها.
التواصل الاجتماعي الحقيقي هو أفضل طريقة لاستعادة الإنسان، على البشرية أن تستيقظ، ليلتقي الإنسان بالإنسان ويخرج من الشبكة الالكترونية التي تم اصطياده بها، فهي بدهاليزها ومساربها تستدق إلى حد اللعنة في استعصاء داخلي، مما يجعل الأفراد خاضعين لرأي الشركات الحاكمة الأميركية، وديمقراطيتها التي تحكم بمصلحة رؤوس الأموال وتخضع الجميع لمشيئتها.
نحن الآن في ذروة ما أسماه الأميركي الفوضى الخلاقة، وهي لم تأت من فراغ فقد درسوا واقعنا والفساد الذي في بلداننا، الضغوطات على مستوى الاقتصاد والسياسة والحروب مع الكيان الصهيوني، والتأخر العلمي وانهيار المناهج التعليمية والعشوائية في البناء، وتهميش الطبقات الفقيرة، ومشاكل الجفاف في السنوات العشر الأخيرة، ولم يكن هناك أي نوع من أنواع الإحاطة بالرعاية، وبلطنا الأخضر فمشى عليه الصحراوي.