الطريق الحكاية

الطريق الحكاية

(1)
حجارة الشارع القديم، ناتئة، زلقة، تتعثر عليها الخطوات، وتجعل المشي أكثر صعوبة. يشعر المرء أحياناً أنه ثابتٌ في المكان يرجع خطوة إلى الوراء بدلاً من أن يتقدم . والمفارقة أن ذلك يحصل أيضاً حينما تطأ القدم بلاطاً أملس صلداً أمام فندق فخمٍ في دمشق فتنزلق الخطوات هناك أيضاً ويصبح التقدم صعباً. كما لو أن الشارع يختصر تناقضات المدينة، بين من يحاول شدّها من يدها إلى الأمام بأسرع مما تحتمل، عكس وجهتها التي تريد، بين من يريد لها أن ترجع إلى الخلف خطوات. «حجارة الشارع القديم زلقة» ربما، لكنها تشحن المرء بقوة آلاف الأقدام التي داست هنا قبلاً، آلاف النظرات التي تلاقت قبل أن يكمل العابرون عبر الزمن طريقهم

(2)
في كل شارع، رجلٌ مسنٌ أو إمرأة عجوز تجرجر خطواتها  كي تصّل إلى الباص الذي سيقلها إلى حيث تريد. ترمي الجدة جسدها المتعب على المقعد، أو تتكئ على يد عابر سبيل أشفق عليها وتبرع أن يوصلها إلى باب الباص. في كل شارعٍ أيدٍ تمتد كي تعين رجلاً ثمانينياً في النزول من الحافلة، أو تساعده في الوصول إلى وجهته. هناك من يخبره كم من الليرات في يده، ويساعده إذ يدله على قطعة (25) المعدنية كي يدفع تعرفة الركوب لأنه لا يكاد يميّز القطع النقدية. في كل شارعٍ جدات وأجدادٌ لأحفادٍ مجهولين، يريدون أن يثبتوا أنهم مازالوا أحياء. في كل شارعٍ من هذه البلاد جدات وأجداد يطوفون كالأيتام.
(3)
 رأيتهم يقتربون من بعيد، عائلةٌ مكونةٌ من أربعة، تكهنت أنهم يعيشون ربما  خارج دمشق، وربما قدموا صباحاً في باصٍ مهترئ إلى المدينة لإنجاز أوراقٍ رسمية في دائرةٍ حكومية، أو بحثاً عن بيت ربما. لكن لماذا افترضت ذلك؟
لأنهم يندفعون سوية في الشارع جنباً إلى جنب، كما لو أن العائلة بأكمالها ذاهبة لإنجاز مهمةٍ ما. كانت الأم تقضم كعكة رخيصة ملفوفة بورق جرائد كما لو أنها تأكل كنزاً.  ذلك أيضاً دفعني للاعتقاد بأنهم غرباء، إذ أن لكل قادمٍ فقيرٍ إلى العاصمة متعٌ صغيرة يتلذذ بها في كل زيارة. وأنا أقف على الرصيف، ملتفة بمعطفي ووشاحي  فكرت: كيف لي أن أكتب عنهم؟ وأحاول أن أشاهد المدينة من خلال عيونهم؟ الأب بعباءته القديمة، الأم بتقاسيم وجه قاسٍ ونظرات تائهة. طفلةٌ ترتدي سترة ذهبيةً مزركشة وتحاول بأقدامها الصغيرة اللحاق بخطوات والديها. أما الابن، فهو يحاول دائماً أن يسبق الأب بخطوة، كما لو أنه يريد أن يكتشف المدينة قبله، حتى لو كانت مسافة الانتصار خطوةً واحدةً فقط. بدأ شاربٌ مبعثر يظهر فوق خط شفته العليا. سيأتي بعد عامٍ أو عامين إلى دمشق وحده. ربما يخطط لرحلته تلك وهو يحاول أن يسابق أباه في تلك المباراة الخفيّة. تعبر العائلة بي، الأب يحدجني بنظرة سريعة ثم يعود ليكمل سيره قبل أن ينتبه أحدٌ من أفراد أسرته. وأنا أصعد الباص الذي وصل الآن. أفكر أنني أستطيع ربما من مكاني، ابتداع مئات الحكايات عن عائلة قدمت إلى دمشق ذات صباحٍ بارد. أستطيع أن أصف الثياب ولون العيون، وتخيّل مشاعرٍ أو أفكار تسرّع الخطوات أو تثقلها، لكن ذلك لن يغيّر شيئاً، وقد لا يقرب الحقيقة أبداً..  تضيق العائلات المشابهة بأمثالنا، نحن الذين نبحث عن قصصٍ نرويها. لماذا كل ذلك الإصرار لدى محبي  مهنة الكتابة على تقمص حيوات الآخرين؟! ربما تأخرت الصغيرة عن أمها خطوة لأنها كانت تفكر بفتاة وحيدة تلتف بمعطفها منتظرة الحافلة التي ستحملها إلى حكاية جديدة..