«ناجي العلي- عايش»
مرت قبل أيام الذكرى السابعة والعشرون لاغتيال ناجي العلي، فنان الكاريكاتير الفلسطيني على يد الموساد الإسرائيلي في 29 آب 1987 بواسطة مسدس كاتم للصوت. وبهذه المناسبة، أنشأت مجموعة من الشباب على صفحات موقع التواصل الاجتماعي «فيس بوك» حملة تدوين تحت هاشتاج «ناجي_عايش»، وهي حملة تدوين ابتكرها بعض الشباب على الموقع لإعادة تراث ولوحات وأقوال ناجي العلي إلى عقول الجيل الشاب. يقومون من خلالها بتدوين أقواله ومواقفه الخالدة واسترجاع رسومه والتي يقرب عددها من الأربعين ألف لوحة.
كان ناجي منتمياً لثقافة شعب شفاهي لم يكتب أحد حكايات أبطاله المنسيين ولا احترم أحد ذاكرته الحية التي عاشت في وعيه جيلاً بعد جيل، حرم من تراب بلاده، فاختار أن تكون حاضرة في كل أعماله ورسوماته. اختزل الكلام، وحوله إلى رسوم عبرت عما يختلج في ضمير أمة كاملة فكان مقاتلاً بطريقة مختلفة استطاع من خلالها أن يحارب ليس فقط العدو الصهيوني، وإنما التخاذل والانهزام.
انحاز إلى الفقراء، وانعكست مشاعره الوطنية في رسوماته وموضوع قضيته الأساسية.. قضية فلسطين. قال عنه محمود درويش: «لم يكن سهلاً أن تناقش ناجي العلي الذي يقول: لا أفهم هذه المناورات لا أفهم السياسة، لفلسطين طريق واحد وحيد هو البندقية».
تميز ناجي العلي، بنقده اللاذع في رسومه، وخلد شخصيات لها أبعاد في عمق الصراع العربي الصهيوني أهمها «حنظلة» و«فاطمة» و«الرجل الفلسطيني الكادح» و«عجول النفط»..الخ.
«الشرير حنظلة»..
ولكن يبقى بطله الثابت «حنظله» الأشهر بين شخصياته الكاريكاتورية، لم يكن فقط الشاهد والشهيد بل كان تعبيراً عن الضمير الجمعي للشعب العربي الفلسطيني. و«حنظله»، صبي في العاشرة، أدار ظهره وعقد يديه خلف ظهره، وأصبح بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته. وعنه قال ناجي العلي: «ولد حنظلة في العاشرة في عمره، وسيظل دائماً في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء».
لقي هذا الرسم وصاحبه حب الناس، فهو رمز للفلسطيني المعذب، ولكن القوي رغم كل الصعاب التي تواجهه، وشاهد صادق على الأحداث ولا يخشى أحداً. فالصبي الذي يدير ظهره، يتطلع إلى أولئك الموجودين في كل مكان، الذين شبوا على الفقر والظلم.
ومن الشخصيات الرئيسية الأخرى التي تكررت في رسومه، المرأة الفلسطينية التي أسماها ناجي فاطمة في العديد من رسومه. شخصية فاطمة، المرأة التي لا تهادن، رؤياها شديدة الوضوح فيما يتعلق بالقضية وبطريقة حلها، بعكس شخصية زوجها الذي ينكسر أحياناً.
وابتدع في رسوماته أيضاً شخصية السمين ذي المؤخرة العارية والذي لا أقدام له سوى مؤخرته ممثلاً به بعض القيادات الفلسطينية والعربية المرفهة والخونة الانتهازيين. وشخصية الجندي الإسرائيلي, طويل الأنف, الذي في أغلب الحالات يكون مرتبكاً أمام حجارة الأطفال, وخبيثاً وشريراً أمام القيادات الانتهازية.
السخرية في رسومات ناجي ليست شتيمة أو فضحاً لما يجري فقط بل هي فعل لتحرير الوعي وإثارته، هي نوع آخر من الوعي السياسي والاجتماعي والثقافي، نرى فيه الغضب المتمرد.. ورفض الواقع المذل، ودعوة يومية للثورة، لذلك أحبها الناس. امتلك ناجي من خلاله قدرة عظيمة على التنبؤ في المستقبل الفلسطيني. وفلسطين في رسوماته هي فلسطين كل المحرومين، بسيطة وواضحة دون نفاق أو مجاملة أو تستر على أحد. يقول عنها غسان كنفاني: «إن الحدة التي تتسم بها خطوطه، وإن قساوة اللون الراعبة، وإن الانصباب في موضوع معين، تدل على كل ما يجيش في صدره بشكل أكثر من كافٍ».
بينما يؤكد سمـيح القاســم: «كم هو شرير وقاس هذا الولد حنظلة.. إنه يقول الحقيقة.. شرير وقاس أنت يا حنظلة.. إنك جميل في زمن القبح.. صادق في جامعة الكذب.. جريء في عصر الجبناء.. أمين في عهد الخونة.. طويل في مزرعة المسخوطين.. نبيل في بورصة الارتزاق والارتداد».
الرسم على الجدران..!
ولد في قرية الشجرة الواقعة بين طبريا والناصرة بعد احتلال الكيان الصهيوني لفلسطين وهاجر مع أهله، عام 1948 إلى جنوب لبنان. وعاش في مخيم عين الحلوة ثم تم تهجيره من هناك وهو في العاشرة..!! ومن ذلك الحين لم يعرف الاستقرار أبداً، فبعد أن مكث مع أسرته في مخيم عين الحلوة بجنوب لبنان اعتقلته القوات الإسرائيلية وهو صبي لنشاطاته المعادية للاحتلال، فقضى أغلب وقته داخل الزنزانة يرسم على جدرانها. وكذلك قام الجيش اللبناني باعتقاله أكثر من مرة وكان هناك أيضا يرسم على جدران السجن.
سافر إلى طرابلس ونال منها على شهادة ميكانيكا السيارات وتزوج وأنجب أربعة أولاد، أعاد ابنه خالد إنتاج رسوماته في عدة كتب جمعها من مصادر كثيرة، وتم ترجمة العديد منها إلى الإنجليزية والفرنسية ولغات أخرى.
يظهر في رسوماته الموت الآتي بالمسدس الكاتم للصوت، وبشارة الانتفاضة، وحتمية نهاية ممارسات الدجل والمساومة والفساد، وفي رسومه أيضاً تصدمنا نبوءاته المبكرة وإحساسه بفجيعة الموت. وكانت المفارقة الغريبة التي جعلته يحمل لوحة كتب عليها «لا لكاتم الصوت» لحظة اغتياله. وكانت صحيفة نيويورك تايمز محقة في تعليقها عنه: «إذا أردت أن تعرف رأي العرب بأمريكا فانظر في رسوم ناجي العلي».