لا مثيل لها سواها
في عصر الفرعوني تحتمس الثالث كانت «رتن»، في عصر الرومان دعيت باسم «ديوسبوليس»، في العهد الكنعاني صارت «لد»، فتحت على يد عمرو العاص في زمن الخطاب، فيها قبر الخضر، هبت عليها رياح الكوليرا، أصابتها بالكثير من الوجع لكنها أبداً لم تمت، جنوبها الشرقي يافا، شمالها الشرقي صديقتها الرملة التي لا تفارقها سواء في سردٍ أو قصيدة.
اللدُ مدينةٌ حقيقيةٌ، فيها مقبرةٌ وشوارعْ، مطارٌ وسكةُ حديد، مسجدٌ وكنيسةْ، بئرا ماء وخزان طويلْ! قاضيها جديَّ الأكبر العادل شهاب الدين، هاجر منها قسراً جديَّ الشاب، أورثني إياها عن ذاكرةٍ لا تنسى.
لدّي لا مثيل لها سوى اللد نفسها، مغروسةٌ في تربتي التي خلقت منها كوردةٍ مبللةٍ، وأنا فراشة عمياء لم ترها لكنها تشم الرائحة التي تفوح من جدرانها القديمة، رائحة العطر الذي رشته جدتي الشابة يوم الزفاف!
لم أكن بوعي الشعر الكامل، لم أكن أعرف أنه شعر!
حين كتبت نصيَّ الأول، قصيدتي الأولى، عن بيت حوله شجر الزيتون والطيور المغردة، كتبت فقط عن الحديث والحكايات التي تدخل بلطفٍ على جلسة ما بعد العصر حين نلتف حول المدينة، نرى شهداءها الأحياء يرتدون ملابسهم المدنية تشتعل فيهم دماء الحنين لنا، نحنُّ لنلتقي، في لدٍ لا مثيل لها!
أتمشى في خيالي، أدخل الباب القديم، بين الجدران التي يبرز على جانبيها زلف يافا القديمة، رائحة الملح في البحر، بقع الزيت وآثار البارود على البساط المغزول على نِوال مجدلاوي الصوف تراثي النقش والتطريزة.
متسرعاً قلت لجديَّ: لمَ هرب والدك؟ قال لي: لأن والدي خلع الطربوش، وغطى أنفه وحاجبيه بالكوفية، حين كان يجلس في الغرفة التحتية يصلح ما تعطل من بنادق الثوار، ثم ضحك وقال: لو لم نهاجر لما كتبت للّد هذه القصيدة، أو حتى لمات جدكَ ولم يفكر والدكَ بزيارة بحر يافا ليشكو للبحر حب أمك العزيزة !
يسرح جدي واللقمة في يده، أتفرس ذقنه المحلوقة، شواربه التي تغطي شفته البنية، ثم يعود لنا مرة أخرى من رحلة الذاكرة، يستطرد في الحديث عن المعصرة وبقايا الزيتون الذي يتحول بأيديهم صابوناً يغسل رجس الطغاة من الأرض، الأرض الحمراء القاسية التي لا يحرثها إلا الرجال كما وصفها.
أسرح أنا، أمسك الفأس، أحرث، أحرث، أحرث... لكني لا أجد الأرض!
أعود في المساء إلى خوابي الذاكرة، أقلب قديمها وحديثها ومخزون القمح المتروك هناك كي نصنع عشاء العودة معاً، نغمّس الزعتر، ونلين فتيل السراج، نطفئ نار الحسرة التي تأكل أوراق الفرح في طابون الذاكرة..
أسأل جدي المتذكر، المرغرغ العينين، لماذا لم تلتقط صورٌ لك في كل زقاق اللد كي ترينا إياها؟
يقول: لو عرفت أن اللجوء سيطول إلى ما بعدين الستين لما خرجت!
أسألُ ثانية، هل من صور؟!
يقول: آخر الصورٍ حُرقت وطارت كالعصافير، عندما قُصف منزلنا على حدود رفح..
آخر الصور الكارتونية من الحدود طارت!
وعودة الصورة في النص، أول النصر!