«الزمن المتبقي» المستقبل حين يكون وليداً شرعياً للذاكرة
«فلنا هنا في أرضنا ما نعمل.. ولنا ما ليس فيكم : وطن ينزف شعبا»..
لم يضع حينها الشاعر الراحل محمود درويش تفاصيل جغرافية ولا تاريخية للمكان سوى أنه نسب الأرض لأهلها وبمجرد هذه النسبة، فهناك إذا ما يعمله أصحاب هذه الأرض محتلة كانت أم لا، هي إذاً قدرة على خلق الحياة ما دام هناك صيغة ملكية للمكان، وهذا ما رآها بشكل جلي مبدع السينما الفلسطينية الحديثة إيليا سليمان في فيلمه «الزمن المتبقي» الذي كان أهم الأعمال السينمائية التي تتناول فلسطين مؤخراً.
فؤاد سليمان ابن أرض الـ48 ورغم كل ما حاق به وبأهله من ظلم وبوعيه الشديد والمفرط لطبيعة الصراع العربي الصهيوني، وجد الحل الأمثل للمقاومة، وهي الوجود... بمعنى الحياة، لم يغادر مدينته ولم تغره الحياة في الأردن على الرغم من أن أخته أخذت حيزاً اجتماعياً وسياسياً هناك، إلا أنه كان يبحث عن الحيز الخالد... فلسطين، عاش وزوجته وابنه إيليا، ليقدم تجربة إنسان واجه كل شيء بالوعي والصمت مدركاً النتيجة الهائلة التي حققها، والتي تبدت معالمها فيما بعد مع الجيل الجديد أبناء وأحفاد الـ48، الذين اكتشفوا أسلوب الحياة تحت وطأة الاحتلال.
إيليا يعود إلى مدينته في وقت مرض أمه ليجد إرث وعي والده متجسداً في الأجيال الجديدة، ويجد أمه تتبع أسلوب الصمت ومقاومة الموت، فالأب المصر على التدخين سابقاً رغم كل أمراضه عاش على هذه الأرض ملياً والآن الأم تأكل الآيس كريم رغم ارتفاع السكر عندها، فللحياة مجال آخر.. طالما أنها حياة من نوع آخر، وها هو الابن الصامت يرى ثواراً يرجمون المحتلين بالحجارة وامرأة تصيح بوجه جندي يأمرها بالعودة إلى منزلها قائلةً «عد أنت إلى منزلك»، وامرأة حامل تطمئن على جنينها في المستشفى في الوقت ذاته الذي يدخل هذا المستشفى مصاب برصاص الاحتلال، وأسير يسمع موسيقى التكنو، وشباب يرقصون في النايت كلوب غير مهتمين بنداء الجيش بفرض حظر التجول، وشاب «ستايل» يحدث صديقه على الموبايل أمام مدفع دبابة يلاحقه أينما ذهب... هنا تبدو الصناعة الأسطورية للحياة التي توصل إيليا إلى نتيجة مفادها قدرة هذا الشعب على الخلود والاستمرار بصورة طبيعية كما رسم أبوه، لنجده يحمل عصا الزانة ويقفز متجاوزاً جدار الفصل العنصري في صورة سحرية غاية في الإبداع.
هناك في سماء الأرض المحتلة ألعاب نارية في العام الجديد، وهناك في البيت شجرة ميلاد، وأم تشرب القهوة على الشرفة، طفل يتجاوز الحدود دون تصريح دخول ليبيع الفاصولياء للسكان، ورجل مخمور كلما حاول حرق نفسه لم يشتعل عود الثقاب وكلما شرب طرح نظرية جديدة في حل المسألة.. هو إذاً غليان حياتي يقابله طرف آخر مدجج بالسلاح والألبسة الثقيلة والرعب... قاتل أراق الكثير من الدماء ولم يرتح يوماً.. وقتيل أريق دمه لكنه ما زال يعشق الصيد ويرقص التكنو ويقود التاكسي على وقع موسيقى صاخبة ويأكل الآيس كريم ويشرب العرق.
الزمن المتبقي هو عنوان انتقاه إيليا الشاهد على الذاكرة وراويها ومخرجها حيث يعطي الزمن صيغة حصرية فيقول «الزمن المتبقي» إذاً هنالك وقت ما لمن تبقى، ولكن السؤال الذي تجيب تفاصيل الفيلم عليه بوضوح من هو المستمر؟ كذلك يجيب محمود درويش.. كان اسمها فلسطين.. صار اسمها فلسطين.