اصطفافات مؤقتة
إهداء إلى الرفيقة
لينا محمد..
وبقية الرفاق والأصدقاء...
يمكن الآن، الآن فقط، لأي كان أن يجور على أي كان، وأن يتهمه بالتخاذل أو الجبن أو الخيانة... فمساحة تقاذف الاتهامات واسعة ومغرية، واللوحة معقدة، والرؤية ضعيفة، والغبار والأوحال والدخان وحتى الدماء، تعيق البصر وتعمي البصيرة، وتفسح المجال لحدوث اصطفافات مؤقتة لن تلبث أن ينفرط عقدها مع انتقال الحدث الجاري إلى إحداثيات ومناخات أكثر وضوحاً وأقل تعقيداً..
يمكن الآن، الآن فقط، أن يقف اثنان من موقعين مختلفين، ومصالح متباينة لدرجة التناقض، في رتل واحد طويل، ويهتفان للحرية، الأول، السائر في المقدمة بصدر مكشوف، يريدها لأنه مخنوق ومنهك ولا يملك أي شيء سوى الحلم، والثاني المتواري في الخلف أو خلف الحدود، والحاصل على كل شيء إلا السيادة المطلقة، يبتغيها مطلقة، لكي يتسنى له سريعاً أن يبقيها للأول مجرد حلم قصيّ المنال..
ويمكن الآن، الآن فقط، أن يقف اثنان في جهاز الدولة أو خارجه، مختلفا المراتب والغايات والصفات والحالة العامة، في موقع واحد للدفاع عن الدولة، الأول، الواقف على الخط الأول، يقوم بالمهمة بالطرق والأساليب التي يحسب أنها الأفضل آملاً أن يحمي الدولة كياناً وشعباً وعلَماً، ليستمر في إطعام أولاده ويحافظ على سلامة أهله واستقرار مجتمعه، والثاني، المتربع فوق ترفه، طمعاً في استمرار نهبه للدولة والتنفذ فيها وإبقاء الأول محدود الدخل والرأي والشعور بالطمأنينة..
كما يمكن الآن، الآن فقط، أن يقوم الإعلام الأساسي والرديف بخلط الأوراق، فيخوّن هذا ويبرّئ ذاك، ويرى هذا شهيداً وذاك مجرماً، وهذا مواطناً وذاك مندساً، ويؤلّب الناس بعضهم على بعض، ويوزّع شهادات بالوطنية وحسن الانتماء والسلوك، تاركاً خط رجعة ومبررات جاهزة للانتقال إلى أي ضفة أخرى إذا دعت الحاجة وتغيرت الموازين.. بينما من يدير لعبة الموت بارتباطاته وأجنداته، يستمر بالعبث بالكرامات والأحلام البريئة بعيداً عن الأضواء والكاميرا النزيهة الذكية.
بل يمكن الآن، الآن فقط، أن يُفرَز الناس إلى فئات «قروسطية» لتضليلهم عن ذواتهم وإدخالهم في دوامة التناحر، بينما يقف من قام بفرزهم على تلة من المال المنهوب والعرَق المكدود والدماء المراقة، ليساوم منافسيه وشركاءه على حصص التهام لحمهم ومص دمائهم..
ويقيناً، يمكن الآن، الآن فقط، أن يبدو العدو صديقاً، أو ينساه البعض تماماً، كما يمكن أن يصبح الأخ عدواً، وأن يُختزل الوطن إلى مساحة قد لا تتجاوز مرمى البصر، فالبلدان الصغيرة في «الشرق الأوسط الكبير» أو «الجديد» أقل طموحاً وأكثر انقياداً.. هذا ما استنتجه من وضع الخرائط قبل مائة عام.. لذلك يريد تصحيحها اليوم..
الآن، الآن فقط، يمكن أن يتداخل الخصم والصديق، والأخ والغريب، والقاتل والمقتول، والمجرم والضحية، واللص والشريف، والناهب والمنهوب، والمصلح والمفسد، والصادق والمخادع، والإعلاميّ الوطني والبوق المأجور.. ويمكن أن يضيّع الكثيرون بوصلة الدرب إلى الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الوطنية، ولكن مؤقتاً، وعمّا قليل، سيكتشف المدفوعون إلى الخديعة أن الدم الواحد لا يمكن أن يصير طلاء أرصفة، وأن الوطن أكبر وأوسع من التجييش الفئوي والانفعالات اللحظية والاصطفافات الوهمية والغباء الإعلامي.. سيتذكّر الناس ميسلون العزة، والثورة السورية الكبرى، والشاطئ الأزرق البديع، وشلالات تل شهاب، ومسرح بصرى، وقلعة الحصن، وصلاح الدين، ونهر الفرات، والسن، وبردى، والعاصي، ودجلة، والكبير الشمالي، وانتصار تموز، والجولان المحتل، وقاسيون، والتين والزيتون والبرتقال والقمح.. سينتبهون أن الفقر واحد، والنهب واحد، والحلم واحد.. وأن من طرد الفرنسيين في ربع قرن فقط، وصمد في وجه الحصار الأمريكي عشر سنين، لن يسقط في أول اختبار حقيقي بالوحدة الوطنية بعد وضع مشروع «الفوضى الخلاقة» موضع التنفيذ..