هذه مصر.. كيف أبقي الرأس بارداً؟
الشمس تشرق من شرقها...
الشمس تشرق من شرقها...
هل تذكرون مصطفى سعيد بطل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» التي كتبها الطيب صالح؟ أنا أتذكره منذ ثورة مصر، أتذكره وأراه يخرج من النيل ويبكي حتفه وتردده وارتباكه وضياعه وهزيمته أيضا، أتذكره وأتذكر الراوي والبطل والسيدة الانجليزية التي أرسلت مصطفى إلى بريطانيا ليتعلم وأضحك من سخرية القدر، وأتذكره وهو زير النساء المتعجرف والساحر، وأضحك لأنه لم يحب الحياة ولا العمل كفاية، وأبكي حين أتذكر جملته في الرواية «كان حباً عجز أن يعبر عن نفسه» أبكي عليه وعلينا نحن الذين كنا سجناء الارتباك والخوف، الخوف من كل شيء حتى من الحياة نفسها ومن الآخر ومنا ومن جدار البيت الذي كنا نظنه من شدة خوفنا جدار تجسس للسلطة، جدار السلطة الكبير كان بعقولنا وبأرواحنا وبصورة الفرعون في كل مؤسسة ومدرسة وجامعة، وربما أستطيع القول عن علاقة هذا الجيل بالسلطة ما قاله مصطفى عن حبه، فالجيل الذي هيمن على ميادين العمل السياسي والتعليمي والاقتصادي والفكري والإعلامي خلال العقود السابقة، بطريقة ما، كان حباً عجز أن يعبر عن طموحاتنا و تنقصه الإرادة.
طوال ثورة 25 يوليو كنت أتذكر طريقة أستاذ الإحياء في المدرسة في إطلاق الأحكام المطلقة وأضحك، على زمن كان يرتبك من العطر ويرتبك من مؤلفة الكتاب ظناً منه أنها الراقصة الفاتنة، ويرتبك من وجهه في المرآة، ولم يكن عاجزاً عن التطور فحسب، بل كان أسيراً للسلطة المطلقة والخوف، وكان عاجزاً أمام مفاهيم الحرية والمساواة والتطور والمدنية والندية أمام الحضارة الأخرى المهيمنة، وما حملته معها من انجازات فكرية سخرت لبقاء منجزها الإنسان الأبيض، قوة مسيطرة ليس على مقدرات الشعوب فقط، بل كان يبرمج حياتنا أيضاً، وكأن كل شيء عندنا مسخر لخدمة سلطة الحكم وسلطة الأبيض، من سياسات التعليم وخطط الاقتصاد ونفي التاريخ واللغة والجغرافيا والتجارة وعادات الاستهلاك إلخ إلخ.. هل تذكرون تصريح رئيس الوزراء الاسباني السابق بعد حادثة أسطول الحرية؟
كل هذا يحيا ويموت الآن، يموت بمنظريه وفلاسفته وكتبه، ليحيا ويرمي كل المطلق الذي حكمت فيه الشعوب طوال العقود الماضية، مطلق السلطة وقوانين الطوارئ ومطلق أن البلاد لا تدار إلا بهذه الصورة، ومطلق أن الثقافة العربية غير مهيأة لحكم ديمقراطي يرتكز على حرية الفرد واحترامها وغير مهيأة لتداول السلطة، كل هذا ينتهي الآن وينتهي معه ومطلق السيطرة ومطلق الرئيس وحاشيته وأسلوب الحكم ومطلق الهزيمة، ومطلق الذين يعيدون القصة ذاتها والرقصة ذاتها كل ليلة على هواء القنوات الممولة من مدن الملح، ومطلق الشاهد الجبان في قاعة المحكمة وهو اليسار، ومطلق شهود الزور وهم الإسلاميون والعلمانيون الذين ما استطاعوا أن يطرحوا بديلاً علمياً وعملياً لهذه السلطة، ليبدأ عصر نوارة نجم وشباب الميدان الذين كانوا ينظفون الميدان وينظفوننا من كل مطلق علق بنا، ولينتهي معهم عصر مصطفى سعيد والسيدة الانجليزية وعصر الخيزران والجزرة، ويبدأ عصر العمل والبناء والتجريب والحب والحياة والحرية التي سمعنا بها صوت الله في ميدان التحرير.
وفي مصر ينتهي
عصر مهندسي الفراغ....
أجهزة القمع (ولا أتكلم هنا عن الأجهزة الأمنية في مصر أو في دول السلطة المطلقة فحسب، بل أتكلم عن ديكورات هذا الحكم، الأحزاب السياسية من اليسار وحتى الإسلاميين والبرلمانات والجامعات والأجهزة الإعلامية والمؤسسات الاقتصادية ومثقفيها)، لم تكن تمارس القمع فحسب، بل كانوا يهندسون الفراغ لتفرغ الأرواح من طموحاتها، وتفرغ البلاد ويفرغ العمل من انتمائه، كانوا يهندسون الفراغ ويجملونه مرتكزين على ماض ما ملكوه، وعلى مستقبل لم يقرأ مهندسوه التاريخ جيداً، وما عرفوا قيمة العمل ولم يقرأ أهله الثقافة التي ترفض العيش بإرث الماضي وتريد أن تبلور هويتها وحاضرها ومستقبلها بما يضمن مواطنة غير مريضة.
كانوا يهندسون الفراغ ويقيدون العقل، فأخذت تفرغ مؤسسات الدولة والمجتمع من وظيفتها وواجباتها، وهذا كله كان يتم بصورة ممنهجة، فلا ننتبه إلى ما يحدث في السر أو في العلن، ولا ينتبه أصحاب المطلق إلى الإدراك الجمعي الذي أخذ يتبلور بفعل التعليم وبفعل ثورة الاتصال، ظانين أنه غيب تماماً وغيب معه القدرة على التحليل والوعي والذكاء.
وفي مصر ينتهي
عصر البداوة
كان يحكمنا البدو، بدو الخليج والنفط وبدو الأنظمة، وبدو الأنظمة ليس بالضرورة أن يكونوا من البدو، لكنهم كانوا بدواً لم يتطوروا لا في آليات الإنتاج ولا العقلية الإدارية التي تدير البلاد، وكانوا بدواً في عنادهم الذي أوصل البلاد إلى الحضيض، فآليات الإنتاج السائدة والمتبعة في هذه السلطة، هي ذاتها العقلية الإنتاجية عند البدوي البسيط في الرعي والزراعة والصناعة، زراعة تعتمد نظام البستنة، وصناعة تعتمد ماكينة الغزل القديمة، وقوانين تجارية تفرض بأن يدفع المستثمر نصف الأرباح للحاكم وللحاشية، تماماً كما كانت تدفع القوافل التجارية الأتاوة لقبائل الصحراء، لتمر، كل هذا ينتهي وتنتهي معه سيطرة العقلية البدوية على آليات ووسائل الإنتاج.
وفي مصر ينتهي
عصر الفرد المرتبك
لم تستطع معظم دول السلطة المطلقة، بناء المفهوم العصري للدولة، القائمة على الحريات واحترام الفرد واحترام وظيفة الدولة الخ الخ، فهذه الدول فشلت في حل أزمة التنمية السياسية وفشلت في القضاء على الفقر بل أن هذه الأزمات تضاعفت وأصبحت الأزمات مركبة «أزمة سلطة وأزمة فرد» ومربكة بفعل التوجهات المتقلبة لهذه الأنظمة، فمرة يتم تبني «التوجهات الاشتراكية» في العمل والبناء وأخرى تنتقل الدولة إلى النظام الرأسمالي في تطبيق سياسات الانفتاح الاقتصادي والخصخصة الخ الخ، وكل هذا كان يتم بطريقة غير منضبطة وعشوائية ودون تخطيط حسب الرياح السياسية في العالم، الأمر الذي عمق مشاكل الفقر وتعميق الشرخ بين الحاكم والمحكوم وارتباك الفرد بصفته القاعدة الأولى في الإنتاج وظهور المواطنة المريضة والسلبية، وأدى إلى عدم التوظيف الصحيح للموارد المتاحة وأدى إلى تحالف غير مكتوب بين السلطة ورأس المال عرقل النمو الاقتصادي والسياسي والفكري، كل هذا كان يتم لأن الفرعون كان يظن أنه الذكي الوحيد والشعب هم أفراد أغبياء لا يفكرون بأكثر من رغيف الخبز، وكل هذا ينتهي ليبدأ معه عصر العقل والتخطيط
وفي مصر
ينتهي ارتباك الذاكرة
يا الله كم كنا نخاف من الغد ومن حروبه ومن الجندي على الحاجز ومن الجندي على الجبل قرب بيوتنا، كم كنا نرتعب من مفردات الغد، وكم أثقلتنا صور الذاكرة التي تروى على الشاشة، ضياع فلسطين، ثم سلسلة الانقلابات التي رفعت شعار فلسطين علناً ورحبت باحتلالها سراً ثم حركات المقاومة التي طردت من الأردن لتنطلق الى لبنان، ثم وفاة جمال عبد الناصر، ثم كامب ديفيد وخروج مصر من معادلة الحرب إلى معادلة الحياد والوسيط، ثم اجتياح لبنان لينتهي بصبرا وشاتيلا وبخروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، ثم اجتياح الكويت ثم حصار العراق و«أوسلو» ثم عناقيد الغضب 96 ثم الانتفاضة وقانون الإرهاب الذي ما كف يدقق بالتحويلات المالية لمواطن غزاوي في الضفة لأهله في غزة «صديقي الغزاوي الذي يسكن الضفة كان في كل مرة يقوم بتحويل مبلغ من المال لأهله في غزة يضطر للإجابة على أسئلة المخابرات عندنا... إلى أين يذهب هذا المبلغ؟»، ثم سقوط بغداد، وأخيراً تقسيم السودان، يا الله كم هذا مذل، ويا الله كيف نصبح مرتبكين حين تتداخل هذه الصورة مع صورة الشاهد الأندلسي في تاريخ السيرة وحاضرها، وكيف ينتج عن كل هذا الحزن الذي يهوي بالروح، شخصية عاجزة لا تملك قرارها ولا تملك حاضرها ولا مستقبلها، وكيف نجح ميدان التحرير أن يمحوها من ذاكرتنا، كيف استطاع أن يمحو مفردة البكاء من القاموس واللا جدوى والضياع وان ينهض بنا كلنا، ادخلوا البيوت بيتاً بيتاً الآن، وادخلوا إلى عمق ذاكرتنا وعقولنا سترونها أكثر لمعاناً وأكثر تحدياً وأكثر إقبالاً على الحياة وأكثر تنظيماً وإرادة ومعرفة لما تريد.
وفي مصر ينتهي
زمن الفلسطيني الوحيد والمرتبك
بين فلسطين ومصر شيء يتجاوز الجغرافيا السياسية والتجاور ويتجاوز اللغة ليصل جغرافيا العاطفة، الفلسطينيون الذين استسلموا لحتمية البعد الذاتي المصري في ميادين العمل لم يفقدوا الأمل في البعد التاريخي والاستراتيجي والعاطفي لمصر.
وهذه الحقيقة التاريخية لا تكتسب أهميتها لولا عاطفة الفلسطيني العادي تجاه مصر، وهذا ينطبق على المصري أيضاً، فالأخيرة لم تأت بأهميتها من التاريخ فحسب، فهي صاحبة يد كبيرة في تاريخنا السياسي والاجتماعي في مرحلة عاصفة في الأحداث الحاسمة والتحولات، وعلى قدر ما كانت هذه المرحلة صعبة كان غياب مصر أصعب، إلى حد كنا نشعر فيه بأننا الوحيدون الذين دفعنا ثمن هذا الغياب كأن حرماناً فرض علينا في غيابها، ولو استعرضنا أثره، سنجد أن النتيجة هي الجهل الفادح الذي حكم عملنا السياسي طوال السنوات الماضية، جهل غرق فيه أكثر من جيل، إلى الحد الذي تجرع فيه جيلي مرارته وتحمل الخسارة الناتجة عن غيابها وغياب المنظومة السياسية المتماسكة والمتوحدة في عالم لا يقبل خطاب الضعيف وفي زمن لا يقبل الرجوع إلى الوراء.